يقول جل من قائل: “ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم، يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم”،
(آل عمران الآيات:ح 73 - 74) .
ويقول صلوات الله وسلامه عليه (إن لله في أيام دهركم نفحات، ألا فتعرضوا لها) .
لقد فضل الله بعض الناس على بعض بالتقوى والعمل الصالح، فقال جل شأنه: “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير”، (الحجرات: الآية 13) .
وفضل بعض الرسل على بعض فقال: “تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد”، (البقرة الآية 253) .
وفضل بعض الأماكن والبلاد على بعض، ففضل مكة والبيت الحرام والمدينة المنورة وبيت المقدس وسهل عرفة .
كما فضل بعض الشهور على بعض، فقال جل شأنه: “إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حُرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين”، (التوبة: الآية 36) .
رفع الأعمال إلى الله
ولقد بين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فضل أوقات معينة، منها شهر شعبان عموماً وليلة النصف منه بخصوصها لأسباب صرح بها، ومنافع دعا إلى اكتسابها .
ولشهر شعبان ذكريات عظيمة تستحق العناية والاهتمام وله من الفضل الذي تعرضت لأسبابه الأحاديث النبوية والتي أكدت أن في شهر شعبان ترفع فيه الأعمال لله عز وجل مصداقاً، لقوله عز وجل: “من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً إليه يصعد الكلام الطيب والعمل الصالح يرفعه والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور”، (فاطر: الآية 10) .
إن أي عامل أو موظف مهما كان صغيراً أو كبيراً، إذا أدرك أنه سيرفع عنه تقرير لرؤسائه فإنه يجتهد في الاتقان والإجادة وإظهار خير ما عنده من علم وخبرة ومعرفة .
ولهذا فإن المسلم إذا علم أن عمله سيرفع في هذا الشهر العظيم المبارك، حفزه ذلك على الإجادة في العبادة، والصدق في المعاملة مع الخالق والمخلوقين .
الاكثار من الصيام:
ولقد بلغ من صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ربه أنه كان يخص شهر شعبان بكثير من الصيام والطاعات .
فلقد كان يصوم أكثر أيام الشهر، فعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما، قال: قلت: يا رسول الله: لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان؟! قال “ذاك شهر يغفل الناس عنه، بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم”، (أخرجه النسائي وأبو داود وصححه ابن خزيمة) .
وهذا سر من أسرار سيدنا المصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد عمد صلوات الله وسلامه عليه إلى الإكثار من الصيام في شهر شعبان، ليلفت نظر أمته إلى العناية بالإكثار من الطاعات في هذا الشهر والتقرب إلى الله فيه بالعمل الصالح .
والصوم عبادة من أجل العبادات التي يتحقق فيها الإخلاص، لأن الصوم سر بين العبد وربه، فعن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله عز وجل كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) .
إن مما يستدعي العناية بالصيام في شهر شعبان، أنه يقع بين رجب الحرام، وبين شهر رمضان المبارك الذي فرض الله صيامه تخليداً لنزول القرآن الكريم فيه، والرسول الكريم حريص على هداية أمته لأوقات القبول والمغفرة، فبين لهم قدر هذا الشهر العظيم
عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول إنه لا يفطر، ويفطر حتى نقول إنه لا يصوم، وما رأيته استكمل صيام شهر قط إلا رمضان، وما رأيته في شهر أكثر صياماً فيه من شعبان)، (أخرج الحديث أئمة الحديث الستة) .
سلامة القلب من الضغائن
أما ليلة النصف من شعبان فقد ورد في فضلها أحاديث كثيرة منها عن السيدة عائشة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها قالت: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل (ليلة النصف من شعبان) فصلى فأطال السجود حتى ظننت أنه قد قبض، فلما رأيت ذلك قمت فحركت إبهامه فتحرك فرجعت، فسمعته يقول في سجوده: “أعوذ بعفوك من عقابك، وأعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بك منك إليك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك”، فلما رفع رأسه من السجود وفرغ من صلاته، قال: يا عائشة ظننت أن النبي قد خاس بك؟ قلت: لا والله يا رسول الله، ولكنني ظننت أنك قبضت بطول سجودك، فقال: أتدرين أي هذه؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: هذه ليلة النصف من شعبان، فيغفر الله فيها للمستغفرين، ويرحم المسترحمين ويؤخر أهل الحقد كما هم (رواه البيهقي) .
فضل ليلة النصف من شعبان:
وهكذا أحيا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (ليلة النصف من شعبان) متعبداً متبتلاً داعياً في سجوده بهذا الدعاء، مبيناً أن في مثل هذه الليلة المباركة يغفر الله لعباده المترحمين والمستغفرين ويستثني منهم أهل الحقد والبغي والعدوان والضغائن .
لأن الحقد عداوة وبغضاء لا يصح أن يشتمل عليها قلب المسلم، لأن المسلم الصادق هو من سلم الناس من لسانه ويده
إن ايذاء الناس والحقد عليهم، لا يكون إلا في قلب خال من الإيمان، مملوء بالكراهية، مريض بالعداوة والقسوة على خلق الله، والمؤمن الحق هو الذي يقبل على الله بقلب سليم طاهر من الأحقاد والضغائن، فسلامة القلب من الأحقاد والضغائن هو من صفات المؤمنين الفائزين برحمة رب العالمين: “يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم” (الشعراء: 88-89) .
وقد وصف الله نبيه إبراهيم عليه السلام فقال جل شأنه: “وإن من شيعته لإبراهيم، إذ جاء ربه بقلب سليم” (الصافات: 83-84) .
إحياء الليلة
وفي رواية لابن ماجه عن الإمام علي “عليه سلام الله وكرم الله وجهه” أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: “إذا كانت ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها، فإن الله جل وعلا، ينزل إلى السماء الدنيا لغروب هذه الليلة فيقول: هل من مستغفر فأغفر له، هل من مسترزق فأرزقه، هل من مبتل فأعافيه، هل من كذا هل من كذا حتى يطلع الفجر” .
ولذلك كان إحياء هذه الليلة بالدعاء الوارد في كتب السنة الشريفة وإحياء هذه الليلة بجميع أنواع الطاعات من قراءة قرآن أو صلاة أو صدقة سنة متبوعة أجمع عليها أكثر أهل العلم .
وخير الدعاء ما دعت إليه الحاجة، وانبعث من القلب وحاطه الاخلاص، وخيره وأقربه إلى الله ما كان في وقت السجود، يقول صلوات الله وسلامه عليه: “أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا فيه الدعاء” .
تحويل القبلة
ومن أعظم فضائل هذه الليلة تحويل القبلة إلى البيت الحرام، إن حادثة تحويل القبلة تحمل كثيراً من دروس الصبر والمصابرة والأمتثال، والأمر بالتوجه إلى الكعبة في الصلاة لا ينفي أن المسجد الأقصى هو ثالث الحرمين الشريفين الذي تشد الرحال إليه، ويجب على المسلمين رعاة ورعية حماية المقدسات الإسلامية ورعايتها وقطع يد العدوان عنها، يقول جل جلاله: “وكذلك جعلناكم أمه وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم” (البقرة: 143) .
إن ليلة النصف من شعبان قد ثبت فضلها بإجماع أهل العلم وتسمى “الليلة المباركة”، وليلة الإجابة وكفى بهذه الليلة شرفاً وفضلاً أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحياها .
صاحب المقال:
السيد علي بن السيد عبدالرحمن آل هاشم 15/7/2011
* مستشار الشؤون القضائية والدينية عضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف
|
الأحد، 31 يوليو 2011
فضل شهر شعبان
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق