1- شرف علم التصوف وفضيلته :
تأليف العارف بالله أحمد بن أحمد بن عجيبة الحسني
الفتوحات الإلهية في شرح المباحث الأصلية:
تأليف العارف بالله أحمد بن أحمد بن عجيبة الحسني
الفتوحات الإلهية في شرح المباحث الأصلية:
اعلم أن شرف الشيء وفضيلته, إما أن تثبت بالعقل أو بالنقل أو بظهور ثمرته في الخارج, وقد اجتمعت هذه الأمور في علم التصوف على الكمال:
أما ثبوت شرفه بالعقل, فلا شك أن الشيء يشرف بشرف موضوعه وواضعه, وقد تقدم: أن موضوع هذا العلم, الذات العلية, وهي أشرف وأفضل على الإطلاق, وواضعه الرسول عليه الصلاة والسلام, وهو أفضل الخلق بالإجماع, وأيضا العقل السليم: يستحسن الكمالات, ولا شك أن التصوف ما وضع إلا لتحقق الكمالات: علما؛ وعملا, وحالا, فهو موضوع لتكميل العقائد وتطهير النفوس وتحسين الأخلاق.
وأما ثبوت شرفه بالنقل, فلا شك أن الكتاب والسنة وإجماع الأمة وردت بمدح جزئياته ومسائله, كالتوبة, والتقوى, والاستقامة, والصدق, والإخلاص, والطمأنينة, والزهد, والورع, والتوكل, والرضا, والتسليم, والمحبة, والمراقبة, والمشاهدة, وغير ذلك من مسائله
وقال الجنيد رضي الله عنه: لو نعلم أن تحت أديم السماء أشرف من هذا العلم الذي نتكلم فيه مع أصحابنا لسعيت إليه ما تبلغ إليه المطي, وفي رواية (ولو حبوا).
وقال الشيخ الصقلي رضي الله عنه في كتابه المسمى (بأنوار القلوب في العلم الموهوب): كل من صدق بهذا العلم فهو من الخاصة, وكل من فهمه, فهو من خاصة الخاصة, وكل من عبر عنه وتكلم فيه فهو النجم الذي لا يدرك والبحر الذي لا يرتقي.
وما من علم إلا وقد يستغني عنه في وقت ما, إلا علم التصوف, فلا يستغني عنه أحد في وقت من الأوقات.
وأما شرفه باعتبار ظهور ثمراته, فهو الذي تكلم عليه الناظم في هذا الفصل, وحصره في ستة أمور:
الأول: ما ظهر على أهله من شدة الاقتداء وقوة الاتباع.
الثاني: ما ظهر عليهم من وفاق مذهبهم, وحسم الخلاف والنزاع بينهم.
الثالث: ما ظهر عليهم من الكرامات الحسية والمعنوية.
الرابع: ما ظهر عليهم من تطهير جوارحهم من الذنوب, ونفوسهم من العيوب في الغالب.
الخامس: ما ظهر عليهم من تحقيق عقائد الإيمان, وترقيهم فيها إلى مقام الإحسان, مع صحة اليقين والثقة برب العالمين.
السادس: ما كوشفوا به من العالم الروحاني, وما ترقوا إليه من عالم الملكوت, وحضرة الجبروت, وهذا مضمن هذا الفصل, فأشار إلى الأول
2- حجة من يرجح الصوفية على غيرهم :
حجة من يرجح الصوفية *** على سواهم حجة قوية
قلت: وإنما كانت حجة من يرجح الصوفية على غيرهم حجة قوية, لأنهم أحرزوا الكمالات: عقلا وعملا, وحالا, أما اعتقادهم فترقوا فيه إلى الشهود والعيان, وأما عملهم فهم يأخذون بالأحسن والأحوط, فهم الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
وأما حالهم فهي: ربانية ذوقية, فهم على بينة من ربهم.
ثم ذكر ترجيحهم وشرفهم باعتبار ما ظهر عليهم من ثمرات علمهم, وهي ستة كما تقدم فأشار إلى الأول, وهي شدة الاقتداء والمتابعة فقال:
هم اتبع الناس لخير الناس *** من سائر الأنام والأناس
قلت: الأنام, والأناس, شيء واحد, وهم الناس؛ سموا الأنام, لغلبة النوم لهم؛ وسموا الناس؛ لأنس بعضهم ببعض.
يقول رضي الله عنه: (هم أي الصوفية أتبع الناس) وأكثرهم اقتداء بسيد الناس صلى الله عليه وسلم فدل على أنهم أحب الخلق إلى الله.
قال تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه؛ وماله, وولده, والناس أجمعين) وعلامة المحبة الاتباع.
وقال بعضهم: التصوف ذكر مع اجتماع, ووجد مع استماع؛ وعمل مع اتباع.
ثم ذكر وجه كونهم أشد الناس اتباعا, فقال:
تبعه العالم في الأقوال *** والعابد الناسك في الأفعال
وفيهما الصوفي في السباق *** لكنه قد زاد بالأخلاق
قلت: الناس ثلاثة: عالم, وعابد, وعارف صوفي, وكلهم قد اخذوا حظا من الوراثة النبوية, فالعالم ورث أقواله عليه الصلاة والسلام تعلما وتعليما, بشرط إخلاصه, وإلا خرج من الوراثة بالكلية, إذ الأعمال بلا إخلاص, أشباح بلا أرواح؛ ومن ورث من أبيه جارية ميتة, فليس بوارث, والعابد ورث أفعاله عليه الصلاة والسلام, من: صيام وقيام, ومجاهدة ظاهرة, فقد قام عليه الصلاة والسلام حتى تورمت قدماه, وكان يصوم كثيرا ويفطر كذلك, والصوفي العارف ورث الجميع, فأخذ في بدايته ما يحتاج إليه من العلم, وقد يتبحر فيه, ثم ينتقل إلى العمل على أكمل حال, ثم زاد عليهما بوراثة الأخلاق التي كان عليها باطنه صلى الله عليه وسلم من: زهد وورع, وخوف, ورجاء, وصبر, وحلم, وكرم, وشجاعة, وقناعة, وتواضع, وتوكل, ومحبة, ومعرفة, وغير ذلك مما يطول ذكره, ولذلك قال سهل رضي الله عنه: الصوفي من صفا من الكدر, وامتلأ من الفكر, وانقطع إلى الله دون البشر, واستوى عنده المال والمدر.
وقد خص الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بخصائص لم يشاركه أحد فيها, فكان له القوة في الجهتين, فمن نظر في عبادته وجده لا يطاق, ومن نظر في أخلاقه الباطنة وجده لا يدرك, ومن نظر في معرفته وجده لا يلحق ولا يقرب أحد حول حماه, فكان عليه الصلاة والسلام على مقام: لا يدرك, ولا يلحق, ولا يعرف.
وانظر قول الشيخ القطب ابن مشيش رضي الله عنه: (وفيه ارتقت الحقائق وتنزلت علوم آدم فأعجز الخلائق, وله تضاءلت الفهوم فلم يدركه منا سابق ولا لاحق) ولن ينال أحد من العلماء والعباد والصوفية من علمه عليه الصلاة والسلام أو عمله أو خلقه إلا رشفة أو رشة, ولله در البوصيري في بردة المديح, حيث يقول:
وكلهم من رسول الله ملتمس *** غرفا من البحر أو رشفا من الديم
وواقفون لديه عند حدهم *** من نقطة العلم أو من شكلة الحكم
ثم ذكر الأمر الثاني, وهو اتفاق مذهبهم, واتحاد غاية طريقهم.
والأمر الثالث وهو ما ظهر عليهم من الكرامات فقال
ثم بشيئين تقوم الحجة *** وأنهم قطعا على المحجة
مذاهب الناس على اختلاف *** ومذهب القوم على ائتلاف
وما أتوا فيه بخرق العادة *** إذ لم تكن لمن سواهم عادة
قلت: الحجة هي الدليل والبرهان, والمحجة هي الطريق المستقيم, والائتلاف هو الاتفاق.
يقول رضي الله عنه: ثم تقوم الحجة الدالة على أنهم على المحجة والطريق المستقيم بشيئين: أحدهما أن مذاهب الناس على اختلاف كثير, فقد كانت مذاهب الفقهاء في الفروع اثني عشر مذهبا, ثم تقررت في أربعة.
كانت مذاهب القراء خمسة وعشرين رواية, ثم تقررت في عشرة, وكانت مذاهب النحاة على مذهبين, بصري, وكوفي, بخلاف مذهب الصوفية, فهي متفقة في المقصد والعمل وإن اختلفت المسالك, فهي راجعة إلى صدق التوجه إلى الله تعالى من حيث يرضى بما يرضي وعبارة كل واحد على قدر ما نال منه, إذ كل عبارة فيه إنما هي مخبرة عن صدق توجه صاحبها؛ وكل من له نصيب من صدق التوجه: له نصيب من التصوف, إذا كان توجهه يرضاه الحق, ومن حيث يرضاه, وإلا فهو زنديق, واسم التصوف عليه لا حقيقة له, فلذلك قيل: (من تصوف ولم يتفقه فقد تزندق, ومن تفقه ولم يتصوف فقد تفسق, ومن جمع بينهما فقد تحقق) وإنما تزندق الأول لرفضه الحكمة والأحكام, وتفسق الثاني لخلوه من صدق التوجه فيما هو فيه, وتحقق الثالث لقيامه بكل في محله, فمرجع كلام الصوفية في كل باب لأحوالهم, وتفسق الثاني لخلوه من صدق التوجه فيما هو فيه, وتحقق الثالث لقيامه, بكل في محله, فمرجع كلام الصوفية في كل باب لأحوالهم, وإلا فلا تنافي بين أقوالهم لمن تأملها, وذلك خلاف مذهب غيرهم, والوجه فيه أن الحق واحد وطريقه واحدة, وان اختلفت مسالكها, فالنهاية واحدة, والذوق واحد, وفي معنى ذلك قال قائلهم:
الطرق شتى طريق الحق مفردة *** والسالكون طريق الحق أفراد
لا يعرفون ولا تسلك مقاصدهم *** فهم على مهل يمشون قصاد
والناس في غفلة عما يراد بهم *** فجلهم عن طريق الحق حياد
فان قلت: قد ورد مدح الاختلاف وذم الائتلاف فقد ورد في بعض الآثار (اختلاف أمتي رحمة) وقال بعضهم:ما دامت الصوفية بخير ما تنافروا, فإذا اتفقوا فلا خير فيهم.
قلت: أما مدح الاختلاف فهو محمول على الاختلاف في الفروع, كاختلاف الأئمة في المذاهب, فان في ذلك توسعة على الأمة, إذ كل من تمسك بمذهب فهو ناج, ما لم يتبع الرخص, وكذلك اختلاف الروايات في القراءة, فهي توسعة أيضا على القارئ, بخلاف الاختلاف في الأصول, فهو مذموم, كاختلاف القدرية والجبرية والحشوية وغير ذلك من الاختلاف في التوحيد, ومذهب الصوفية هو الاتفاق في الأصول والفروع.
أما الأصول فنهايتهم الشهود والعيان, وهم متفقون فيه, لأنه أمر ذوقي لا يختلف.
وأما الفروع فهم يأخذون بالأحوط, والأكابر منهم يخرجون عن التقليد, ويتمسكون بالكتاب والسنة في نفسه, وان كان جلهم قلدوا في الفروع, فكان الجنيد على مذهب أبي ثور, والشبلي: مالكيا والجيلاني, حنبليا, إلى غير ذلك.
وأما قول من قال: (ما دامت الصوفية بخير ما اختلفوا) فمراده اختلاف تنبيه وإرشاد فكل واحد يرشد صاحبه وينبهه إذا رأي فيه نقصا وعيبا, فإذا اتفقوا وسكتوا على عيوبهم فلا خير فيهم, وقد يحمل ذلك على حال مذاكراتهم في العلوم, فقد قالوا فيهم: (ألسنتهم حادة, وقلوبهم سالمة) ولا شك أن حال المذاكرة لا ينبغي فيها التسليم في كل شيء, إذ لا تخرج العلوم إلا بالحك والبحث والتفتيش.
قال بعضهم, نحن في حال المذاكرة بحال من قال: (حك لي نربل لك) لا بحال من قال: (سفج لي: نعسل لك) هكذا سمعتها من شيخ شيخنا مولاي العربي رضي الله عنه, وكان يقول لي: لا تسلم لنا في حال المذاكرة, وكان أيضا يقول: المستحي, والمتكبر والخواف, لا يأخذ من طريقتنا شيئا, والله تعالى أ علم.
وأما الأمر الثاني الذي تقوم به الحجة فهو: خرق العادة التي ظهرت على أيديهم, وتسمى: الكرامة, وقد تقدم تنويعها إلى حسية ومعنوية, وأن المعتبر هي الكرامة المعنوية, وهي الاستقامة, وأما الكرامة الحسية فإن صحبتها الاستقامة فهي كرامة شاهدة على صدق صاحبها مع الله وإن لم تصحبها استقامة, فهي: استدراج ومكر.
قال بعضهم: خرقي العادة كرامة للمبتدع, والمبتدع هو المغروق في الدنيا وأشغالها إلى عنقه, ولو كثرت صلاته وصيامه.
وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: إنما هما كرامتان جامعتان محيطتان: كرامة الإيمان بمزيد الإيقان وشهود العيان, وكرامة العمل على السنة والمتابعة وترك الدعاوى والمخادعة, فمن أعطيهما ثم جعل يشتاق إلى غيرهما فهو مفتر كذاب, أو ذو خطأ في العلم والعمل بالصواب, كمن أكرم بشهود الملك على الرضا, ثم جعل يشتاق إلى سياسة الدواب وخلع المرضى.
وكرامة الأولياء قد بلغت مبلغ التواتر, فلا تحتاج إلى دليل, والله تعالى أعلم.
ثم أشار إلى الأمر الرابع, وهو تطهير جوارحهم من الذنوب, وقلوبهم من العيوب فقال:
قد رفضوا الآثام والعيوب *** وطهروا الأبدان والقلوب
قلت: لا شك أن الصوفية رضي الله عنهم قد رفضوا الذنوب, أي نبذوها وراء ظهورهم ورفضوا العيوب, أي: طهروا قلوبهم منها, وسبب تطهيرهم من الذنوب والعيوب تطهيرهم من أصلها ورأسها.
أما أصلها, فالخلطة مع الغافلين الجاهلين, فمن خالط العوام وظن أنه ينجو من الآثام فقد رام المحال, كمن خلط الحطب مع النار, وظن أنه ينجو من الاحتراق.
وأما رأسهما فحب الدنيا الساكن في القلوب.
ففي الحديث: (حب الدنيا رأس كل خطيئة) رواه البيهقي في الشعب من مراسيل الحسن.
وقيل هو: من كلام مالك بن دينار.
وقيل: من كلام سيدنا عيسى عليه السلام.
وقيل: من كلام علي كرم الله وجهه.
وعده بعضهم في الموضوعات, ورده ابن حجر, فالله تعالى أعلم.
وعلى كل حال فهو كلام صحيح في المعنى مجرب مذوق فمن طهر قلبه من حب الدنيا ورياستها ومالها واعتزل عن الحسد فالغالب سلامة قلبه من العيوب, وطهارة جوارحه من الذنوب, وما تشعبت عيوب القلوب إلا منها, إذ عليها يقع الحسد والبغض والغل والخصام والفجور, وبها يقع الكبر, وحب الرياسة, والنفاق, والتصنع للخلق, وبها أيضا يقع: البخل, والشح, والجبن, وغير ذلك من العيوب, وكذلك الذنوب, كالكذب والأيمان الفاجرة, وسوء الخلق وغير ذلك, ويرحم الله الإمام الشافعي رضي الله عنه حيث قال:
ومن يذق الدنيا فإني طعمتها *** وسيق إلى عذبها وعذابها
فلم أرها إلا غرورا وباطلا *** كما لاح في ظهر الفلاة سرابها
وما هي إلا جيفة مستحيلة *** عليها كلاب همهن اجتذابها
فإن تجنبتها عشت سلما لأهلها *** وإن تجتذبها ناهشتك كلابها
فطوبى لنفس أوطنت قعر بيتها *** مغلقة الأبواب مرخي حجابها
وقوله: (وطهروا الأبدان والقلوب) تفسير لما قبله على طريق اللفظ, والمعنى وطهروا الأبدان من الآثام والذنوب, وطهروا القلوب من المساوئ, والعيوب, فلما حصل لهم هذا التطهير المجيد لاح لهم قمر التوحيد. فأسلموا الأمر إلى مولاهم ورجعوا إلى من قد تولاهم عملا بقوله: {ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى والى الله عاقبة الأمور}. فلما تحققوا بذلك وقفوا في رياض الإحسان, وأشرقت عليهم شموس العرفان, وأضاءت لهم أنوار المواجهة والعيان.
هذه المنازل الثلاث هي التي ينزلها المريد ويرتحل عنها.
منزل الإسلام, وهو محل تطهير الجوارح الظاهرة من الذنوب وتحليتها بطاعة علام الغيوب.
ومنزل الإيمان, وهو محل تطهير القلوب من المساوئ والعيوب, وتحليتها بمقامات اليقين, لتتهيأ لحمل معرفة رب العالمين.
ومنزل الإحسان, وهو محل الشهود والعيان.
قال بعض العارفين رضي الله عنه: من بلغ إلى حقيقة الإسلام لم يقدر أن يفتر عن العمل, ومن بلغ إلى حقيقة الإيمان لم يقدر أن يلتفت إلى العمل, ومن بلغ إلى حقيقة الإحسان لم يقدر أن يلتفت إلى أحد سوى الله تعالى, وإلى هذه المراتب أشار بقوله:
وبلغوا حقيقة الإيمان *** وانتهجوا مناهج الإحسان
قلت: وهذا هو الأمر الخامس الذي ظهر به شرف أهل التصوف وفضيلتهم, وأنهم بلغوا إلى حقيقة الإيمان وصريحه, بتحقيق دعائمه وأركانه, التي من جملتها الإيمان بالقدر: خيره وشره, حلوه ومره, فقد استوى عندهم وقت الخير ووقت الشر, ووقت الحلو مع وقت المر, قد استوى عندهم الذل والعز؛ والذم والمدح, والمنع والعطاء؛ والقبض والبسط وغير ذلك من اختلاف الآثار وتنقلات الأطوار, وذلك لأجل ما حصل لهم من مقام الرضا والتسليم, وكمال المعرفة وخلوص اليقين.
وقوله: (وانتهجوا مناهج الإحسان) أي سلكوا طريق الإحسان الموصلة إلى الشهود والعيان, ولذلك افتقروا إلى دليل يكون عارفا بالمنازل والمناهل, قد سلك الطريق وعرفها حتى يوصلهم إلى مطلوبهم, ويقول لهم ها أنتم وربكم, وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله.
ثم أشار إلى الأمر السادس, وهو ترقيهم من عالم الملك إلى عالم الملكوت, أو تقول من عالم الأشباح إلى عالم الأرواح, فقال:
وعلموا مراتب الوجود *** كالأم والوالد والمولود
واستشعروا شيئا سوى الأبدان *** يدعونه بالعالم الروحاني
قلت مراتب الوجود هي: العوالم الثلاثة: الملك, والملكوت, والجبروت, وذلك أن الوجود له ثلاثة اعتبارات.
وجود أصلي أزلي وهو الذي لم يدخل عالم التكوين, ويسمى عالم الأمر, وعالم الغيب, وهو المسمى بعالم الجبروت.
ووجود فرعي, وهو النور المتدفق من بحر الجبروت (وهو كل ما دخل عالم التكوين: لطيفا كان أو كثيفا, ويسمى عالم الشهادة وعالم الخلق, وهو المسمى: بعالم الملكوت لمن غرق فيه وجمعه بأصله).
ووجود وهمي, وهو محل ظهور التصرفات الإلهية, ومقتضى الأسماء الجلالية والجمالية ويسمى عالم الحكمة؛ وهو عالم الملك
وقال بعضهم: العوالم أربعة: عالم الشهادة, وعالم الغيب, وعالم الملكوت, وعالم الجبروت.
فالأول كالكثائف المحسوسة, والثاني كاللطائف الغيبية, كالجن والملائكة والأرواح, وهذا كله داخل في عالم الملك, والثالث وهو عالم الملكوت, هو جمع لهذه الأشياء, وضمها إلى أصلها, وتحقيق الشهود فيها, والرابع الذي هو الجبروت, هو العظمة الأصلية اللطيفة الأزلية قبل ظهورها, وفي هذه المراتب يقع الترقي للسائرين, فيترقون من عالم الملك الذي هو وهمي ظلماني حسي, إلى عالم الملكوت الذي هو نوراني ملكوتي, ثم يترقون إلى عالم الجبروت الذي هو أصل أزلي, فإذا ضموا الأصول إلى الفروع صار الجميع جبروتا, وهذا هو العالم الروحاني الذي أشار إليه بقوله: (واستشعروا شيئا سوى الأبدان).
وقوله: (كالأم) الخ يعني أنهم عرفوا مراتب الوجود الثلاث, وفرقوا بين: الملك والملكوت, والجبروت, تفريقا ضروريا كما يفرق الرجل بين ولده, وأمه وأبيه, ويحتمل أن يكون التشبيه من حيث الإيجاد والظهور, فإن عالم الجبروت سبب في ظهور عالم الملكوت (فهو أشبه شيء بالوالد, وعالم الملكوت هو محل استقرار الصفات, كالقدرة والإرادة, والعلم, والحياة, التي هي سبب في إظهار آثارها لعالم الملك, فهو أشبه بالأم في تربية الولد قبل الظهور وبعده, وعالم الملك هو محل ظهور التصرفات الإلهية وآثار القدرة الأزلية, فهو أشبه شيء بالولد لظهوره بينهما, وربما يلوح حديث الخلق عيال الله وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله رواه أبو يعلى, والبزار, عن أنس ولفظه: (الخلق كلهم عيال الله, وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله) والله تعالى أعلم بالصواب.
وقوله: (واستشعروا شيئا سوى الأبدان) الخ.
أعلم أن عالم الأشباح هو عالم الملك, وعالم الأرواح هو عالم الملكوت, ومحلهما واحد, إذ ليس لنا إلا وجود واحد, لكن النظرة تختلف باختلاف الترقي في المعرفة, فما ذام العبد مسجونا بمحيطات حسه, محصورا في هيكل نفسه, فهو مقيم في عالم الأشباح, محصور في عالم الملك, لم تفتح له ميادين الغيوب, لم يفرق بين روحانية وبشرية, ولا بين حسه ومعناه فإذا فتح الله بصيرته وغاب عن حسه ونفسه, وفلسه وجنسه, رأى نور الملكوت قد فاض من بحر الجبروت, فحجب شهود ذلك النور عن ظلمة الحس, وعن رؤية الكون, بشهود المكون, فالكون أصله كله نور, وإنما حجبه ظهور الحكمة فيه, فمن رأى الكون ولم يشهد النور فيه أو قبله أو معه, فقد أعوزه وجود الأنوار وحجبت عنه شموس المعارف بسحب الآثار, فإذا ضم النور إلى أصله صار الجميع نورا واحدا, وهو نور الجبروت, أو سر اللاهوت, فقد علمت أن الملك, والملكوت, والجبروت, محلها واحد, وكذلك عالم الأشباح وعالم الأرواح, محلهما واحد, فأهل الحجاب لا يرون إلى عالم الأشباح, وأهل العرفان, وهم أهل مقام الإحسان لا يرون إلا عالم الأرواح, مع أن المحل واحد لكن لما رق حجابهم, وتلطفت بشريتهم, استشعروا شيئا زائدا على عالم الأشباح, وهو عالم الأرواح, ويسمى عالم المعاني والعالم الروحاني, وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله عند قوله:
لم يتصل بالعالم الروحاني *** من عمره على الفضول عانى
وعند قوله:
مهما تعديت عن الأجسام ** أبصرت نور الحق ذا ابتسام
والله تعالى أعلم.
ثم أشار إلى أن هذه المعاني لا تدرك بالعقول, وإنما هي أذواق يلغز إليها بإشارات المقول, فقال:
ثم أمام العالم المعقول *** معارف تلغز في المنقول
قلت: اعلم إن النفس, والعقل, والروح, والسر, كل واحد منها له حد ينتهي إليه في العلم والإدراك, على ما يأتي بيانه إن شاء الله عند قوله:
يا جاهلا أقصى الكمال وقفا *** على عقول وهمها لا يخفى
فشهود أنوار الملكوت وأسرار الجبروت, وهي علوم المعارف, أمر خارج عن مدارك العقول, فهو أمام العالم المعقول, أي وراءه وقدامه: لا مطمع له في إدراكه, وقد تقدم قول ابن الفارض.
فثم وراء النقل علم يدق عن *** مدارك غايات العقول السليمة
وقال أبو العباس رضي الله عنه:
لو عاينت عيناك يوم تزلزلت *** أرض النفوس ودكت الأجبال
لرأيت شمس الحق يسطع نورها *** يوم التزلزل, والرجال رجال
قال: والأرض: أرض النفوس والجبال: جبال العقل.
قال بعضهم في تفسير قوله تعالى: {فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا} أي تجلى لجبل العقل دكا أي مضمحلا {وخر موسى صعقا}. أي زال وجوده بوجود خالقه, والمتجلي فيه.
والحاصل: أن شموس العرفان لا تدرك بعقل ولا حدس ولا برهان, وإنما تدرك ببيع النفوس وبذل الأرواح, وبالخروج عما تعهده النفوس وتحيط به العقول, فإذا صح منك هذا الخروج, أدركت أنوار الملكوت متصلة ببحر الجبروت وصرت لا يحجبك عن الله أرض ولا سماء, ولا عرش ولا كرسي, ولا أفلاك ولا أملاك, وصرت أنت قطب الوجود تدوره بيدك كيف شئت, خليفة الله في أرضه, ونقطة دائرة كونه, والله ذو الفضل العظيم وإلى هذه المعارف أشار بقوله:
ثم أمام العالم المعقول *** معارف تلغز في المنقول
وأشار بقوله: (تلغز) الخ إلى أن هذه المعاني ليست صريحة في كلام الله, وإنما هي من باب الإشارة واللغز, وكذلك قيل في قوله تعالى: {إذا زلزلت الأرض زلزالها} أي أرض النفوس, {وأخرجت الأرض أثقالها} أي ما فيها من العلوم والحكم والأسرار {وقال الإنسان ما} متعجبا من حال تلك النفس {مالها،يومئذ تحدث أخبارها} تظهر أسرارها ومواهبها, وهذه كلها إشارات والغاز, وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في تفسير الإحسان (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن) وقف بعضهم هنا وجعل (تراه) جوابا, أي فان تحقق زوالك, ولم تكن شيئا تراه, وهذه الأمور كلها إلغازات وإشارات لا يسلمها أهل الظاهر, وإنما يذوقها أهل الباطن, ويلغزون بينهم بها, وقد قالوا: علمنا كله إشارة, فإذا صار عبارة خفي, ثم أن هذه الأمور إنما هي كشوفات تشرق على الأرواح والأسرار, تكون لوائح ثم لوامع, ثم طوالع, ثم يتصل الشروق, ويدوم النور, حتى يقع الرسوخ والتمكين؛ وإلى ذلك أشار بقوله:
وعلموا أن لهم تمكينا *** يرقى بهم مرقى المكاشفينا
قلت قد علموا أن دوام السير قطعا يؤدي إلى الوصول, وحال التلوين لا بد يوصل إلى التمكين, فإذا ترقوا إلى مقام التمكين فقد وصلوا إلى مقام لو كشف الغطاء ما ازدادوا يقينا بل قد انكشف الغطاء, لكن مراتب الكشف لا نهاية لها, {وقل رب زدني علما} ولما علموا بمقام التمكن, علموا أن لهم موانع تمنعهم من الوصول إليه. كما أشار إلى ذلك بقوله:
ثم رأوا أن دون ذاك مانع *** كدفتر نيط عليه طابع
فالقوم حين علموا بذاكا *** وميزوا القطاع والأشراكا
سلوا من العزم لهم قواضب *** فأنبت كل قاطع وحاجب
فاحتزموا للطعن والنزال *** وابتدروا ميادين القتال
قلت الدفتر: الكتاب, وأراد به هنا الحرز والتميمة, ونيط: أي لف, وغشى الطابع بفتح الباء كالقالب والكاغد والخاتم, والعالم والنابل والطابق, وألفاظ أخرى تبلغ خمسة وعشرين كلمة, كلها بفتح عين الكلمة, نظمها ابن مالك, والأشراك جمع شَرَكَ وهي الشبكة, والقواضب, جمع قاضب, وهو السيف الصارم, والنزال هو: شدة الحرب, وذلك أن العرب إذا اشتد بينهم الحرب نزلوا عن خيولهم ليقاتلوا بالسيوف, والميادين مجال الخيل استعير هنا لمجاهدة النفوس ومحاربتها.
يقول رضي الله عنه:
إن القوم لما شعروا بالحقيقة كامنة في نفوسهم, وكوشفوا بها, علموا أنهم إن تمكنوا من الوصول إليها والرسوخ فيها حصل لهم كشف الغطاء, وارتفعت الحجب عن قلوبهم, فكانوا على بينة من ربهم, ثم رأوا أن مقام التمكين دونه موانع وقواطع, تمنعهم من الوصول إلى ذلك المقام, وهذه الموانع هي التي غطت القلوب وغلفتها وحجبت الأرواح عن الكشف عن أصلها, فصار القلب والروح كحرز مكتوب: لف عليه غشاء وطبع عليه طابع, فلا يظهر ما في باطنه حتى يخرق ذلك الطابع والغشاء الذي غشي عليه, وهذا الطابع الذي جعله الله بحكمته وعدله حاجبا للقلوب عن أسرار الغيوب, هو عالم الطبيعة, وهي شهوات النفوس وعوائدها التي امتزجت معها, وعجنت بطينتها في أصل النشأة وهي التي ذكرها الله تعالى بقوله: {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين} الآية فاشتغلت الروح بتدبير هذا البدن لجهلها, فصرفت همتها لمأكله ومشربه وملبسه ومسكنه ومنكحه, وما يتبع ذلك من الشواغل والشواغب, فعيقت عن أصلها, ومنعت من شهود أنوار ربها, إلا من أسعده الله بولايته, وسبقت له سابقة عنايته, فلما علم القوم بهذه القواطع التي قطعتهم عن الوصول إلى ربهم, وميزوا هذه القطاع والشباكات التي حبستهم في قيودها, وهي علائق الدنيا وعوائقها, سلوّا من هممهم العالية سيوفا, وعزموا على قطع تلك العلائق, ورفضوا تلك الشهوات, فلما علقوا هممهم بالله, وانقطعوا بكليتهم إليه (انقطعت تلك العلائق, وارتفعت تلك الحجب, فاحتزموا وشمروا للطعن في تلك العلائق, ونزلوا لمحاربة النفوس وردها إلى حضرة الملك القدوس, حتى ألقت السلاح, وأذعنت لطاعة الكريم الفتاح.
قال بعضهم: انتهى سير الطالبين إلى الظفر بنفوسهم, فإن ظفروا بها وصلوا, وهذه مسايرة كلام الناظم, وفيه تقديم وتأخيره, فإن قطع العلائق ورفع الحجب مؤخران عن محاربة النفوس, فقول الناظم: (فانبت كل قاطع وحاجب) مرتب على ما بعده من الطعن والنزال, وابتدار ميادين القتال, والأمر قريب.
ولو قال لكل قاطع وحاجب بلام التعليل كان أحسن, والله تعالى أعلم.
ثم بين بعض تلك القواطع، فقال:
واعلموا أن ليس شيء قاطع *** كبدن كاس وبطن سابغ
قلت: يعني أنهم تحققوا أن أعظم القواطع هو الاشتغال بهم الظهر والبطن, فمن أراد الله تعالى أن يتركه محجوبا بنفسه يشغل قلبه بتزيين الملابس وتحسين المأكل, وهذا هو الذي حجب جل الناس, فمن قنع من اللباس بما يستر العورة من خشين اللباس, وقنع من الطعام بما يسد الجوع من مطلق الطعام, كان قلبه مجموعا مع الله إن توجه بهمته إلى الله, ومن كان همه ما يدخل بطنه, كان قيمته ما يخرج منها, وفي الحديث:
(من ترك ثوب جمال وهو قادر عليه ألبسه الله حلة الكرامة يوم القيامة) وقال أيضا صلى الله عليه وسلم:
(إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مسالكه بالجوع).
والمقصود من ذلك كله صرف الشواغل التي تحجب عن الله, سواء كانت من قبل اللباس أو الطعام أو غيرهما, ولذلك عم الناظم في البيت الذي بعد هذا, حيث قال:
ونظروا الحجاب في البواطن *** فوجدوه في النفوس كامن
فعملوا على جهاد النفس *** حتى أزالوا ما بها من لبس
قلت: هذا الحجاب الذي هو كامن في النفوس, هو حب الهوى, ومرجعه إلى حب السوى.
فمنه: ما يكون متعلقا بالظواهر, كحب المال وتزيين الملابس والمآكل والمراكب والمناكح.
ومنه ما يكون متعلقا بالبواطن, كحب الخصوصية, وطلب الكرامة, وحب المدح والثناء, وحب الرياسة والظهور, وما ينشأ عن ذلك من الحسد, والكبر, والغل, والغش, والغضب, والقلق, والحرص, والطمع, وغير ذلك من العيوب الباطنية, فكل من جاهد نفسه في التخلية من هذه المساوئ, والتحلية بأضدادها, من: التواضع, والخمول, وسلامة الصدر, وسخاوة النفس والحلم, والتأني, والصبر والرضا, والتسليم, وغير ذلك من الأخلاق الحميدة زال عن نفسه حجاب النفس والتخليط, واكتسى لباس الصفا والوفا, فكان من المقربين الذين يشربون من عين التسنيم المختوم, ويمزج لغيره من أهل اللبس والتخليط, فمن صفا صفى له ومن خلط كدر عليه, فمن شرب اليوم كأس محبة المولى صافيا من الهوى: شرب عين التسنيم صافيا, ومن مزج اليوم بمحبة الهوى, شرب مع العوام من السلسبيل, ولا حظوة له عند الملك الجليل.
قال أبو طالب المكي رضي الله عنه: واضر ما ابتلي به العبد في دينه, وأشد ما يحجبه ضعف يقينه, لما وعد بالغيب أو توعد عليه.
قال: وقوة اليقين أصل كل عمل صالح.
وقد أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مجاهدة النفوس وتصفيتها بقوله عليه الصلاة والسلام: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده, والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم, والمهاجر من هجر من نهى الله عنه, والمجاهد من جاهد نفسه وهواه). وقال أيضا عليه الصلاة والسلام: (ليس الشديد بالصرعة, إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) وفي معناه قيل:
ليس الشجاع الذي يحمي فريسته***يوم الزحام ونار الحرب تشتعل
لكن من غض طرفاً أو ثنى قدماً***عن المحارم ذاك الفارس البطل
وفي الخبر ر((جئتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر)) يعني جهاد النفس.
قال الشيخ أبو العباس رضي الله عنه,في شأن النفس: هي التي لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها وفي الحكم:
((لو كنت لا تصل إليه إلا بعد محو مساويك وترك دعاويك, لا تصل إليه أبداً, ولكن إذا أراد أن يوصلك إليه غطى وصفك بوصفه, ونعتك بنعته, فوصلك بما منه إليك لا بما منك إليه)) تأليف العارف بالله أحمد بن أحمد بن عجيبة الحسني