كتاب سلوك العارفين
الإمام أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله
عن دار الجنيد على الشبكة الدولية
قال الشيخ الإمام العالم أبو عبد الرحمن السّلمي رحمة الله عليه:
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم أكرمنا بطاعتك
الحمد لله رب العالمين، وصلى على سيدنا محمد وآله أجمعين.
سألتني أسعدك عن سلوك المحققين ومراتب مقاماتهم.
فاعلم: أن أخبر عن الموحدين، الذين وحَّدوه وشهدوا له بالربوبية بقوله تبارك وتعالى: شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكةُ وأولوا العلم قائماً بالقسط [آل عمران:18]:
فحقيقة الشهادة بالتوحيد: ما شهد الحق لنفسه بكمال علمه وتمام قدرته بالاستحقاق، ثم وحَّده سائر خلقه.
وإنما شهدوا له رسماً لا حقيقة؛ فكل على مقدار علمه وحاله، وبعده ودنوّه.
وشهد هو لنفسه وهو مشاهد ذاته.
واستشهد من استشهد من خلقه قبل خلقه لهم: تنبيهاً أنه عالم بما يكون.
وشهادة الحق لنفسه بما شهد به: شهادة صدق، أعلَم بذلك: أنه لا يقبل الشهادة إلا من الصادقين.
وشهادة الملائكة له بذلك: شهادة اضطرار؛ لِما يشهدون من آثار الغيب، ولِما جبلوا على ذلك.
ثم قال: وأولوا العلم أربع طبقات:
اثنان منهم: أهل الظاهر، وهم: أصحاب الأحاديث والفقهاء.
واثنان: أرباب الباطن، وهم: أهل المعاملات، وأرباب الحقائق.
وأصحاب الحديث: نقلة الأخبار وحافظوه، المشتغلون بحفظه وجمعه، وصحيحه وسقيمه.
والفقهاء: هم العاملون بأحكامه وبيانه وناسخه ومنسوخه ومجمله ومبينه ومفصله.
وأهل المعاملات: هم السالكون مسلك التزهد وتصحيح الأفعال والمجاهدات.
وأرباب الحقائق: هم المجردون في حقائق التوحيد والمشيرون إلى التفريد من غير التجرد، والمعبرون عن معاني الأحوال، وهم الذين سُمُّوا: الصوفية.
وطبقة أخرى من العلماء: هم علماء النِّسبة، وهم: الذين تفرّدوا عن الكل بالفرد، وتجردوا عن الأكوان، وتوحدوا بالأحد الصّمد: عرفوا معاني أسامي الحق وحقائق صفاته، وعاينوا الغيوب، وسلِموا من أشغال الكون، ورجعوا إلى حقائق الحقّ، فتحققوا فيه، وانقطعت أسبابهم عن الخلق، أجمعوا وانتسبوا إلى الحق، وصححوا معه النسبة بالكلية.
وهم سادة الأمة، فالإخبار للغير عن أحوالهم صعب وإخبارهم عن أنفسهم على حدود الإشكال؛ صح لهم مقامهم بتصحيح نسبتهم مع الحق، وأشكل عن الخلق مواردهم ومصادرهم.
وهم حجة في البلاد، وإليهم مفزع العباد؛ علت مرتبتهم المراتب؛ لأنهم حطّوا رحالهم في الحضرة، فلا يرجعون منها إلى الرّسوم إلا لإقامة فرضه أو ليتأدب بهم مريد، ولدلالة مريد على سلوكه.
وهم أهل التمكين في التصوف، وأهل الاستقامة فيه.
إليهم النهاية، وبهم القدوة في أحوال القِدَم عن الحدث وترك ما علم وجهل أن يكون تعالى مكان الجميع، وهذا قول الجنيد رحمه .
والمُوحد عندهم: من يتوحد ثم يُوَحَّد.
والتوحيد: إثباتٌ لا نفي فيه، ونفي لا إثبات معه، وفناء فيما بين الحالين، ثم فناء عن ذلك الفناء، حتى لا يكون له حينٌ ولا عنه إخبار.
وطريقة الخراسانيين في التوحيد: إثبات الموحد بنفي ما يضادّ عنه.
وأيضاً: أن يكون العبد قائماً بسرّه وقلبه وحاله بين يدي ربّه، لا يلاحظ غيره، ولا يشاهد سواه.
وأيضاً: هو بقاء الحق وفناء ما دونه.
ثم المعرفة: وهو أن تعالى يعرف إلى خواصه بذاته، ويسقط عنهم بذلك آثار المعرفة والرسوم، فلم يعرفوا غير معروفهم، ولم يعاينوا سواه.
وأيضاً: فإن العارف: من تُجْمع له المتفرقات، وتستوي عنده الأحوال، ويسقد عنه رؤية الأغيار.
وأيضاً: إن العارف: أن يكون بلا حد، كما أن المعروف بلا حدّ.
وطريقة الخراسانيين: أن المعرفة: آثار أنوار العناية على قلوب الأولياء، فيزينهم بأنواع الكرامات: من القربة والمحبة والشوق والأنس وغير ذلك.
وطريقة أخرى لهم: وجود تعظيم تعالى في القلب وتأثير ذلك التعظيم خشية على الجوارح وخشوعاً عليها.
ثم يرجع إلى بيان مبادئ المقامات والأحوال:
فأول مقام فيها: التوبة:
وهو: أن يرجع من الكل إليه؛ لأن له الكل.
وقيل: أن يكون لله تعالى وجهاً بلا قفا، كما كان له قفاً بلا وجه.
وطريقة الخراسانيين: الرجوع من كل ما ذمه العلم إلى ما مدحه العلم.
وقيل: إن التوبة أن لا تنسى ذنبك.
وقيل: أن لا تذكر ذنبك.
ثم الانتباه في التوبة: أن يعرف مِنَّة عليه فيما أهّله له من الرجوع إليه.
وقيل: الإقبال عليه.
وقيل: إن الانتباه تيقظ القلب للواردات.
وطريقة الخراسانيين: هو طرد الغفلة، ولزوم المراعاة ثم الحذر.
قال العراقيون: الحذر من : مراقبة السر عن الالتفات إلى الأغيار.
وطريقة الخراسانيين: أن يكون على حذر، وهو: أن يصحح توبته في مجانبة ما يضادها.
وقيل: تصحيح توبة المريدين: من مفارقة المخالفات وتصحيح توبة العارفين: في مجانبة الغفلات.
وطريقة الخراسانيين: تصحيح التوبة: إتهام النفس على جميع الأحوال، وترك الركون إليها في وقت من الأوقات؛ لأنها أمارة بالسوء.
ثم أول ما يلزمه ويجب عليه بعد تصحيح توبته وسلامتها: أن يجتهد في إتمام فرائض تعالى عليه وأوامره في الأوقات المؤقتة:
فيبدأ من ذلك: بطهارته، التي [ هي ] فرض في نفسها، ومتعلق بها أجَلّ الفرائض بعد التوحيد، وهي الصلاة.
والطهارة طهارتان:
طهارة في الظاهر: هو على الأعضاء المرتبة.
وطهارة في الباطن: على القلب بمداومة الإخلاص.
فيسبغ طهارة ظاهره بماء طاهر مطهر مع كمال: اغسل أعضاءَ طهارتك في الحر والبرد، مقروناً: بالنية، والعلم بأنك مأمور به من جهة الحق؛ لأن تعالى يقول: وما أمروا إلا ليعبدوا مخلصين له الدين [البينة:5].
ويعلم أنه إذا أخلص العمل لله تعالى كفاه منه القليلُ، وإذا لم يخلص لم يكفه الكثير.
ثم يبدأ في صلاته، ويعلم أنه اتصالٌ، وهي في الحقيقة انفصال؛ وذلك أن العبد لا يتصل بربه إلا بعد انفصاله من الأكوان وما فيها.
ويعلم أنه في صلاته يناجي ربّه تعالى، والمناجاة لا يكون إلا عن دنوٍّ، فيحقق في ذلك، ويلزم نفسه أدبَ ذلك الموقف: فلا يشهد غير من يناجي سراً وإعلاناً، ويشتغل بحاله في ذلك الوقت حتى لا يؤثر عليه شيء، ولا يختلج في سرّه.
يبدو عليه في ذلك المقام حال لم يكن يبدو عليه قبل ذلك، كما روي أن النبي كان يصلي ولجوفه أزيزٌ كأزيز المرجل من البكاء.
ويحفظ على نفسه في تلك الحال أوامر الشرع وفرائضه وسننه وآدابه؛ فإن الظاهر عنوان الباطن.
ثم إذا فرغ من صلاته لا يهمّه شيء إلا النظر في تقصيرٍ في صلاته، وقلّةِ حضوره فيها، وكثرة هواجسه.
ثم يطالب نفسه بزيادة ما أثم عليه من مناجاة ربّه، أو فقدها، فيشكر للزيادة ويحزن لفقدها.
ثم إذا صحت له صلاته، نظر في أفعاله كلها على هذا السبيل، فيطالب نفسه بتصحيح جميعها، ويرى تقصيره ونقصانه فيها.
ويعلم: أن ما مِنْه مرضيٌّ: فهو من لا منه، وما منه: فهو في محل الآفة والسَّخط.
ثم الورع: وهو أن يتورع عما سوى تعالى.
قال الخراسانيون: الورع: ترك الشهوات والشبهات.
ثم الزُّهد: والزهد: أن يزهد في الزهد؛ لعلمه أن ما يزهد فيه لا خير له.
لذلك قال الشبلي:" الزهد خشية ".
وحقيقة الزهد: أن يزهد فيما سوى تعالى.
وقال الخراسانيون: الزهد: خلو الأنفس والأيدي عن الدنيا، وخلو القلب مما خلت منه النفس واليد، وترك حظوظ النفس أجمع.
ثم الخوف: وهو أن يخاف تعالى فيه، وبعده ومنه.
وأيضاً: يخاف أن يبدو منه خلاف الحق، فيسقط بذلك من عين الحق.
وطريقة الخراسانيين: ما سئل أبو حفص رحمه تعالى عن الخوف؟ فقال:" سَلْ عنها الخائف؛ فإني لم أر خائفاً إلا لنفسه أو على نفسه؛ فأين حقيقة الخوف من تعالى".
ثم الرجاء: لتطمئن النفس وتهدى ولا تقلق على الخوف؛ فإن الخوف يتأجج عن صاحبه إذا لم يمد بالرجاء، ومتى غلب الرجاء تعطل العبد، وإذا غلب عليه الخوف قنط، فينبغي أن يعتدلا.
وقال الخراسانيون: الرجاء: هو المداومة على الطاعة مع ترك النظر إليها والاشتغال بها.
ثم الصبر: وهو الالتذاذ بأنواع البلاء، وحمل مؤنته حتى تنقضي أيامه.
وقيل: الصبر له وبه عمَّن سواه ودونه.
وعند الخراسانيين: أن الذي يعرفه الناس صبراً وهو التصبّر، والصبر: التهدّف لسهام البلاء، وكلما يستلذ به الصابر ويكون فيه محفوظاً، وهذا هو التصبر؛ لأنه يتجرّع مرارته ويكابد عليه.
ثم الرضا: وهو فناؤه عن رضاه بمشاهدة رضا تعالى عنه.
ومنهم من شغله إرادة الحق ومحبته عن مطالعة رضائه عنه لإرضائه بحال.
وعند الخراسانيين: أنه الطمأنينة عند كل وارد يرد عليه شاء أم أبى.
وقال بعضهم: الراضي لا تغيّر تصاريف الأحوال به وعليه.
وقال الفضيل بن عياض:" الراضي لا يتمنى فوق منزلته ".
ثم التوكل: وهو أن يكون لله تعالى كما لم يكن، ويكون الحق له كما لم يزل.
وعند الخراسانيين: أن يصدق فيما وعد، ويثق به فيما ضمن، ويسقط عن نفسه التدبير.
واختلفت هاهنا الأقوال:
فقال العراقيون: التوكل يقتضي الرضا.
وقال الخراسانيون: الرضا يقتضي التوكل.
ولكلِّ وجةٌ.
وإذا صح التوكل، صح له التفويض والتسليم والمجاهدة:
فالتفويض: هو اتِّهامُ النفس فيما تشير به عليه ومخالفتُها والاعتماد على تعالى؛ لعلمه بشفقته على عباده.
ويصح له ذلك إذا التجا إلى تعالى في جميع أحواله ولا يكون علاقةٌ سواه ولا متعلق.
والتسـليم: هو ترك التدبير، وقبول الموارد بالسمع والطاعة والرّحب والدّعة.
والمجاهدة: هي اتباع الأوامر بحسب الطاقة، وإتعاب البدن فيها إلى أن يبلغ روح التلذذ بالعبادة، فيصير في عبادته مستروحاً.
ثم الحياء: وإنما يتولد الحياء من مطالعة الهيبة والعظمة، فيستحي من توحيده ومعرفته وخدمته وحسناته؛ لما يعلم فيها من النقص والعيب، وأنها لا تصحّ لمقابلة الأمر.
وعند الخراسانيان: الحياء: هو الانكسار بجميع القلب وملازمة الخدمة بنهاية الطّاقة، والندم على ما سلف من الطاعة؛ لشوبها بالرياء والدّعاوى الصّادقة، فكيف الكذِبَة؟!
ثم الإرادة: وهو اعتقاد القلب طلب مرضاة تعالى وإرادة موافقته.
وإذا صح له حال الإرادة: استغنى بصحّة إرادته عن علم العلماء وحِكمة الحُكماء.
وعلامته: أن يكون نومه غلبة، وأكله فاقة، وكلامه ضرورة.
ثم يصير مُراداً، والمُرَاد: من يُحْمَل عنه الأثقال، ويسير في الراحات والعوافي؛ يكون محمولاً لا حاملاً، وما من يَمْشِي برجليه كمن يُمْشَى إليه، ولا مَن نودي عليه.
وقال بعضهم في الفرق بين المُراد والمُريد: أن المُريد تتولاه سياسة العلم، والمُراد يتولاه رعاية الحقّ.
ثم إذا صحت له الطّرق سلوكاً لا خَبَراً وعلماً، يلزم بعد ذلك آداب الفقر وسياسته:
ومن آداب الفقر ومواجبه:
أن يخاف الفقير على فقره أكثر مما يخاف الغني على غناه.
وأن يغار عليه ولا يُظهِرَه، وإذا ظهر عليه ذلك اجتهد في ستره.
ولا يجالس الفقراء مجالسةً يظهر بذلك فقره، ولا يباين الأغنياء مباينةً تبدو بمباينتهم عليه آثاره.
ويصحب الخَلقَ على شرط السلامة، ولا يبدي غناً ولا فقراً.
ويكون من زلل، له أحوال يخلو بنفسه، يطالبها بصدق ما يبديه ويظهره.
نفسه منه في تعب، والناس منه في راحة.
يبيح للخلق ظاهره، ويضنّ عليهم باطنه.
ولا يسكن إلى معلوم، ولا يوحشه معدوم.
وإن ظهر له من القدرة رِفقٌ قَبِلَه، وعلِمَ أن الحقَّ أظهره له، وإن ظهر له ذلك بسببٍ ميّزه ولم يخالف شرطَ العلم.
ولا يطلب غائباً، ولا يتبع نفسه مراداً، ولا يتكلف في الطلب.
ولا يلزم موضعاً يُعرف به، ولا لباساً يتميز به عن أبناء جنسه.
يكسب ظاهراً، ويتوكل باطناً.
إن نطق فبعلم، وإن سكت فبوقار وحِلم.
وإن أكل فبإيثار.
وإن نظر فبعبرة، وإن سكت فبفكرةٍ، وإن سمع فبوَجدٍ.
وإن أمر فبمعروف، وإن نهى فعن منكر.
يشغله وقته عن مراقبة أوقات إخوانه.
يرى فضل الخلق بمشاهدة نقصانه.
يستعمل الأخلاق مع الأجانب، فكيف مع الموافقين؟
يحترم المشايخ، ويكرم الأصحاب، ويرحم المريد.
لا يأخذ الرفق بسبب، إلا في وقت الحاجة من موضعٍ يسكن إليه قلبه.
ولا يستبد في رفقه بأحد دون أصحابه: يحتمل أذى أصحابه ولا يؤذيهم، ويحفظ لهم أحكامهم ولا يحكم عليهم وإن جاراهم العلم فعلى سبيل النصح، وإن كلمهم فعلى طريق الأنس، يطلب لعثراتهم معاذير، وإن ظهر عذر لم يقبله قلبُه علِمَ أن العيب منه لا منهم، يستر عليهم القبايح بل لا يرى منهم قبيحاً إلا في خرق الشرع وما يؤدي إليه فقط، ولا يرى نفسه أهلاً لمجالستهم إلا على حد التَّبع.
يأخذ نفسه باستعمال الشريعة ومحاسن آدابها.
يراقب قلبه في أداء الفرائض.
ولا يرى نفسه أهلاً لرفع حاجة إلى مولاه، ويكون من حاجاته إلى مولاه سؤال التوبة والمغفرة والغفران.
ينشر إرفاقه في كل الأوقات.
ولا يزدري الفقراء، ولا يتهاون بالأغنياء، ولا يخضع لهم بسبب رفق.
ويتيقن أن المعطي والمانع هو وحده تعالى؛ يكون فقره عن الأكوان، وغناؤه بمكوّنها.
يرحم أهلَ البلاء، ويسأل ربه العافية.
ولا يعيِّر أحداً، ولا يحقد على مسلم، ولا يحسد إخوانه ولا يشمت بهم.
ولا ينقض عهداً، ولا يخالف عقداً.
ولا يسكن إلى شيء، ويسكن إليه كل شيء.
ولا يألف أحداً، ويألفه كل أحد.
ولا يستأنس بأحد، ويستأنس به كل أحد.
ظاهره: إمام آداب المريدين، وباطنه: مرآة أنوار العارفين.
لا يعرفه في فقره ومقامه إلا أشكاله.
لا يسافر على المراد، بل يكون سفره: حجاً، أو جهاداً أو قصد شيخ، أو رياضة نفس، أو صحبة رفيق، أو طلب علم، أو زيارة أخ.
ويتعلم ما لا يستغني عنه في أداء فرائضه، ويداوم درس القرآن في خلواته، ويشتغل بالذّكر في أكثر أوقاته.
ولا يتماوت في فقره، ولا يشكو؛ فإن شكاية الفقير لا نهاية لها.
ويعمل في دوام المجاهدة ظاهراً وباطناً.
أعز شيءٍ عليه وقته، لا يشغله إلا بأعزّ الأشياء: وهو دوام المراقبة، واتباع الأوامر، وطلب مرضاة ربّه.
أرجا أوقاته عنده: وقت يقوم بخدمة إخوانه.
يؤثر إخوانه بالأرفاق، ويتحمل عنهم المشاق.
ولا يرى لنفسه فضلاً على أحد من إخوانه.
يُلزم نفسه الأدبَ ليتأدب به من يجالسه.
ويتوب عن أصحابه إذا أخطأوا، ويعتذر لهم إذا أذنبوا وينعشهم إذا أعثروا، ويصفح عنهم إذا زلوا.
يتكبَّرُ على مَن يتكبّر على الفقراء، ويميل إلى من يحترمهم ويميل إليهم.
يوسع على إخوانه بالأحكام، ويضيق على نفسه فيها.
يترك ما لا يعنيه، ويشتغل بما يعنيه.
يتأدب بالمشايخ، ويؤدّب الأصحاب.
ولا يصحب الأحداث، ولا يأخذ أرفاق النساء.
يسكن سرّه عند العَدَم، ولا يعتمد على الكفاية إذا وجد؛ بل يعتمد على الكافي .
يعادي الهوى، ويُعانق الصبر، ويفارق الشهوات.
كلامه نصيحة، وصمته فكرة.
لا يجالس إلا إخوانه، ولا يرافق إلا أقرانه.
ولا يصحب مخالفاً لطمع، ولا ينبسط لصاحب دنيا بسبب رفق؛ يصون فقره عن مخالطتهم ومجالستهم.
لا يلين جانبه للعوام فيتطرقوا بذلك إلى مجالسته.
ويتأدب بإمام.
ويلازم السنة، ويصحب من تبعها، ويجتنب البدعة وأهلها.
ولا يلبس المرَقَّعة إلا مضطراً.
ولا يتزوج إلا إذا خاف على نفسه هتك حرمةٍ.
ولا يتصدر في المجالس، ولا يتكلم على الناس، ولا يعتاد مجالس السماع.
ولا يدّخر.
ولا يرجع إلى معلوم.
ولا يكون له بفقره وجهاً إلى الأغنياء.
ويعلم بعد هذا كله: أن سالك الأحوال لا بد له من علم سلوكه وعلم الأحوال.
ويعلم أن العلم به غير المعرفة، وأن المعرفة غير الوصول إليه، وأن الوصول إليه غير التحقق فيه، وأن التحقق فيه غير الصدق.
وطلب الصدق في التحقيق: من أجلّ المقامات، ولا يعرف مقام الصدق من نفسه إلا الأنبياء وخواص الأولياء، الذين بلغوا محل القُرب والدنو والمكاشفة والمجاهدة.
هذا وأشباهه: صفة أهل الصُّفَّة ، الذين تولوا على حكمَ رسول ، فكانوا في حكمه، وتحت رفقه؛ قال تعالى: لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ، لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً .. الآية: [البقرة:273].
وصيانة الفقراء في ثلاثة أشياء: الكونُ بحكم الوقت وملازمة الأوامر على حدود السنن، وترك التشريف للأرفاق.
وإذا صحت له هذه المقامات، طالب نفسه بالصدق فيها:
والصدق: ترك المداهنة مع النفس في حالٍ من أحوالها ومطالبتها بتصحيح أفعالها وأحوالها.
ومِن لم يحكم فيما بينه وبين ربّه طريقةَ الصدق؛ فإنه لا يصل إلى شيء من سبيل.
ثم يراعي ظاهره بحسن آداب الشرع، والوقوف مع الأوامر بالمبالغة والجدّ، والتباعد عن المناهي.
ويراقب باطنه وما يرد عليه من الأحوال ساعةً بعد ساعة، ويسوس باطنه بالمراقبة كما يسوس ظاهره بالمراعاة، ويرجع في طرد الغفلة والالتجاء والتضرع إلى ربه.
ويشاهد في ذلك كله: مراقبة الحق عليه في كل الأحوال؛ فإن يقول: إن كان عليكم رقيباً .
وإذا صح له مراعاة ظاهره ومراقبة باطنه، يبدو له بعد ذلك حال المكاشفة:
[ والمكاشفة ] في طريق العراقيين: أن يُكشَف له عن المغيبات فيحكم فيها وعليها، ويكشف له عن أحوال الخلق ولا يغيب عنه منهم شيء.
وطريقة الخراسانيين: أن يكشف له عن عيوب النفس وخيانة السر، فلا يدخل عليه حالٌ إلا وهو يعرف صحَّته وسقمه، ولا يغفل عن ظاهره وباطنه.
وأما أحوال الحقائق في المكاشفة:
فمنهم من يُكشف له عن حاله.
ومنهم من يُكشف له عن مُراده.
ومنهم من يُكشف له عن عموم الأحوال، ولا يؤذن له في الإخبار عنها.
ومنهم من يُكشف له عن مراد الحق فيهم.
ومنهم من يكون مكشوفاً، مأذوناً له في الإخبار عما كُشِف له من المَراقب التي خُصَّ هو بها، وخص بها سائر الأولياء.
وهذا دخل في محل الأمانة، والأمناء من الأولياء: هم النهاية في الولاية.
ثم يصح بعد ذلك حال المشاهدة:
والمشاهدة: أن يشهد الغيوب وما يجري فيها، ويشاهد فعل تعالى به، وفعلَه في الخلق، وما يرد ويصدر.
وأهل المشاهدة متباينون في مقاماتهم على حسب تباين أهل المكاشفة.
ثم يدخل في مقام الفناء والبقاء:
وهو عند الخراسانيين: أن يفنى عن كل شيء، ويفنى عن مراداته، ويقوم على مراد الحق فيه.
وعند العراقيين: فناء حظ العبد عن كل شيء سوى تعالى، ببقاء حظّه من تعالى، ثم يفنى حظوظه ويبقى عليه حظُّه بعلم فنائه.
وقال ابن ظاهر: هو فناء رؤية العبد عن جميع الأشياء فتبقى مشاهدته بموجدها ومُظهرها.
وقيل: إن الفناء إخلاص العبوديّة، والبقاء بآدابها.
ثم يدخل في مقام التمكين:
والتمكين عند العراقيين: قومٌ جازوا درجات الأوصاف والحظوظ والإرادات، فوصفهم بما يُوصفون به، وأراد بهم ما يراد به، وحكمهم حكم الحقِّ فتقهره، فلا يكون له رجوعٌ إلى شيء من أحواله، ولا التِذاذٌ بما يطرى عليه؛ لما غلبه من أنوار الحق.
وعند الخراسانيين: التمكين حالٌ يرد على العبد، يسهل عليه حمل موارد الحق حتى لا يعجزه بعد التمكين وارد؛ لكمال ما أيّد به من عناية الحق.
ثم يدخل في حال الجمع والتفرقة:
وهو عند الخراسانيين: أن يجمع بهمَّةٍ ولا يشتّت عليه، فيكون مجموع السرّ، واقفاً مع الحق على حدِّ الاتفاق.
وهذه اللفظة كرهها مقدمو مشايخ خراسان، وأنكروها ولم يطلقوها، ومن أطلقها منهم أطلقها مقيّدة على ما تقدَّم من البيان.
وعند العراقييـن: أن يجمعه إليه بعد افتراقه؛ فقالوا: التفرقة لسان العلم، والجمع لسان الحقيقة.
وأجمعوا: أنه لا يحل لأحد أن يخبر عن لسان الجمع إلا بعد فنائه عن كل حظ، وفناء كل حظ عنه، وبلوغهم إلى محل الأمن ومواقف الأمناء.
و[ الأمَنَاء ]: هم في الأولية بمنزلة الرّسل في الأنبياء.
وهم أهل الإشراف المأذون لهم في الإخبار عن أسرار الحق بأمانتهم، وأنهم لا يخبرون به إلا من كان أهلاً له على قدر أحوالهم وأوقاتهم.
وهم أهل الفراسات الصادقة، والمُحَدَّثون، والمكَلَّمون من جهة الحقِّ: إما إلهاماً، أو بياناً، أو بينةً، أو شهادة؛ قال تعالى : أفَمَن كان على بيِّنة من ربِّـه ويتلوه شاهدٌ منه .. الآية.
وهم خواصّ الأعيان، ومساعدة القضاء في قول تعالى: كن : فيكون القضاء له مساعداً؛ وذلك أن الحق لا يُنطقه إلا في وقتٍ يقضي في ذلك الوقت تمام مراده، ويطلق لسانه بالدعاء إذا قضى إجابته، وإذا دعا وافق دعاؤه الإجابة، وإذا سأل ساعَدَ سؤاله الكون.
وأعلى حالاً منهم: ما سمعت أبا عثمان سعيد بن سلام المغربي رحمة عليه يقول:
" إذا تحقّقت في العبد الولاية، وجاوز حدود حقائق الإيمان: يبلغ إلى رتبةٍ في حالةِ:
أنه يمر بمجالس المطيعين فيراهم على الطاعات، فيفرح قلبه بهم فيدخلون بسروره وبركة نظره في الأولياء ومحل السُّعَداء، من غير أن يسأل لهم ذلك، لكن ببركة نظره.
وكذلك إذا مرّ بمجالس العصاة فيراهم على معصيةٍ من المعاصي، فيقع بصره عليهم فيستوحش منهم، فتوقعهم وحشته في الطرد والهوان، ويدخلون بذلك محل الأشقياء من غير أن يدعو عليهم.
ويكون هو في هذه الحال: أرحم بالخلق منهم بأنفسهم يحزن لهم بما يجري عليهم من المخالفات، ويفرح بما يشاهد عليهم من آثار الموافقات ".
و يختص برحمته من يشاء.
ونحن نسأل أن لا يحرمنا بركاتهم وأن يجعلنا من أتباعهم، والمقتدين بهم
ولا يحرمنا ما رزقهم ويسهل علينا سبيل الخيرات برحمته إنه على كل شيء قدير
وبالإجابة جدير وصلى على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق