أبجدية التصوف
للرائد العارف بالله تعالى
الشيخ محمد زكى إبراهيم
رائد العشيرة المحمدية
السؤال الأول
ما هو المقصود بالتصوف الإسلامى ؟
وهل مورس هذا التصوف فى عهد رسول الله e ؟
ولماذا يختلفون فى تعريف التصوف ؟
ولماذا يختلفون فى تحديد مصادره ؟
الجواب :
المقصود بالتصوف الإسلامى ، يعرف من تعريفاتة كثيرة :
التى تتلخص كلها فى أن :
" التصوف هو : التخلى عن كل دَنِى ، والتحلى بكلى سَنى "
سلوكاً إلى مراتب القرب والوصول ، فهو إعادة بناء الإنسان ، وربطه بمولاه فى كل فكر ، وقول ، وعمل ، ونية ، وفى كل موقع من مواقع الإنسانية فى الحياة العامة " .
ويمكن تلخيص هذا التعريف فى كلمة واحدة ، هى : ( التقوى ) فى أرقى مستويات الحسية ،والمعنوية .
فالتقوى عقيدة ، وخٌلق ، فهى معاملة الله بحسن العبادة ، ومعاملة العبادة بحسن الخلق ، وهذا الاعتبار هو ما نزل به الوحى على كل نبى ، وعليه تدور حقوق الإنسانية الرفيعة فى الإسلام .
وروح التقوى هو ( التزكى ) و ] قد افلح من تزكى [ " سورة الأعلى ، الآية : 14 .
و ] قد أفلح من زكاها [ " سورة الشمس ، الآية : 9 ".
وبهذا المعنى تستطيع أن تستيقن بأن التصوف قد مُورس فعلاً فى العهد النبوى ، والصحابة ، والتابعين ، ومن بعدهم .
وقد امتاز التصوف مثلاً بالدعوة ، والجهاد ، والخلق ، والذكر ،والفكر ، والزهد فى الفضول ، وكلها من مكونات التقوى ( أو التزكى ) وبهذا يكون التصوف مما جاء به الوحى ، ومما نزل به القرآن ، ومما حثت عليه السنة ، فهو مقام ( الإحسان ) فيها ، كما أنه مقام التقوى فى القرآن والإحسان فى الحديث : مقامُ الربانية الإسلامية ، يقول تعالى : ] كونوا ربانيين بكا كنتم تعلمون الكتاب بما كنتم تدرسون [ " سورة آل عمران ، الآية : 79 .
هذا هو التصوف الذى نعرفه ، فإذا كان هناك تصوف يخاف ذلك ، فلا شأن لنا به ، ووزره على أهله ، ونحن لا نُسأل عنهم فــ " كل امرئ بما كسب رهين " والمتصوف شئ ، والوفى شئ آخر .
أما الاختلاف فى تعريف التصوف، فهو راجع إلى منازل الرجال فى معارج السلوك ، فكل واحد منهم ترجم أساسه فى مقامه ، وهو لا يتعارض أبداً مقام سواه ؛ فإن الحقيقة واحدة ، وهى كالبستان الجامع ، كلٌ سالك وقف تحت شجرة منها فوصفها ، ولم يقل إنه ليس بالبستان شجرٌ سواها ومهما اختلفت التعريفات ، فإنها تلتقى عند رتبة من التزكى والتقوى : أى الربانية الإسلامية ، أى ( التصوف ) على طريق الهجرة إلى الله ] ففروا إلى الله إنى لكم منه نذير مبين [ " سورة الذرايات ، الآية 50 – وقال : ] إنى مهاجر إلى ربى [ " سورة العنكبوت ، الآية : 26 " .
فالواقع أنها جميعاً تعريف واحد ، يُكمل بعضه بعضاً .
أما الاختلاف فى تحديد مصادر التصوف ، فدسيسة من دسائس أعداء الله ؛ فالتصوف كما قدمنا " ربانية الإسلام " ، فهو عبادة ، وخلق ، ودعوة ، واحتياط ، وأخذ بالعزائم ، واعتصام بالقيم الرفيعة ، فمن ذا الذى يقول : إنه هذه المعانى ليست من صميم الإسلام ؟
إنها مغالطات ، أو أغالط نظروا فيها إلى هذا الركام للدخول على التصوف من المذاهب الشاذة ، أو الضالة ، ولم ينظروا إلى حقيقة التصوف .
والحكم على الشىء بالدخول عليه / غلطٌ أو مغالطة .
والحكم على المجموع بتصرف أفراد انتسبوا إليه صدقاً أو كذباً : ظلم مبين ..
وهل من المعقول أن يترك المسلمون إسلامهم مثلاً لشذوذ طائفة منهم تشرب الخمر ، أو تمارس الزنا ، أو تحلل ما حرم الله ؟
وهل عملُ هؤلاء يكون دليلاً على ان الإسلام ليس من عند الله ؟! .... شيئاً من التدبر أيها الناس !!! .
السؤال الثانى
من هو الصوفى ؟
وبماذا يمتاز عن عامة المسلمين ؟
وهل هناك فرق بينه وبين التقى ، أو المؤمن ، أو المسلم ، أو الصديق ؟
وإذا لم يكن هناك فرق ، فلماذا الإصرار على استخدام الاصطلاح ؟
الجواب :
تستطيع أن تعرف الصوفى الحق ، بأنه المسلم النموذجى ، فقد اجمع كافة أئمة التصوف على أن التصوف هو الكتاب والسنة ، فى نقاء وسماحة واحتياط ، وشرطه أئمة التصوف فى مريديها أخذاً من قوله تعالى : ] ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون [ " سورى آل عمران ، الآية 79 "
والعلم هنا أولاً : علم الدين بدعامتيه " الكتاب والسنة " ، ثم هما بدورهما منبع كل علم إنسانى نافع ، على مستوى كافة الحضارات ، وتقدم البشرية ، مقتضى تطور الحياة .
فالتصوف إذن هو : ربانية الإسلام الجامعة للدين والدنيا ( قال الشيخ شهاب الدين أبو حفص عمر بن محمد السهرودى رحمه الله تعالى : " إن الصوفى من يضع الأشياء فى مواضعها ويدبر الأوقات ، والأحوال كلها بالعلم ، يقيم الخلق مقامهم ، ويقيم أمر الخلق مقامه ، ويَستر ما ينبغى أن يُستر ، ويُظهر ما ينبغى أن يظهر ، ويأتى بالأمور من مواضعها بحضور عقل ، وصحة توحيد ، وكمال معرفة ، ورعاية صدق وإخلاص " { راجع الخطط التوفيقية لــ " على باشا مبارك رحمه الله تعالى جـ1 ص90 طبع المطبعة الأميرية سنة 1305 هـ } .
ومن هنا جاء قول أئمة التصوف ، وفى مقدمتهم ( الجنيد ) : " من لم يَحصل علوم القرآن والحديث ، فليس بصوفى " ،وأجمع على ذلك كل ائمة التصوف ، من قبل ومن بعد ، وتستطيع مراجعة نصوص أقوالهم عند القشرى ، والشعرانى ، ومن بينهما ، ومن بعدهما .
أما الامتياز عن عامة المسلمين ؛ فالقاعدة الإسلامية هنا هى المل ؛ فإذا عمل الصوفى بمقتضى ما تتمين عليه كقدوة وداعية ، امتاز بمقدار جهده ، شأن كل متخصص وإلا فهو دون كل الناس إذا انحرف أو شذ ، بل إن تجاوز .
فالصوفية يجعلون خلاف الأولى فى مرتبة الحرام اتقاءً للشبهات ، واستبراءٌ للعرض والدين "ومن نصوص الحديث – كما فى الفتح الكبير قوله :
{ الحلال بين والحرام بين ، وبينهما أمور متشبهات لا يعلمها كثير من الناس ، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه ، ومن وقع فى الشبهات وقع فى الحرام ، كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ، ألا وإن لكل مَلك حمى ، ألا وإن حمى الله تعالى فى أرضه محارمه ، الا وإن فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهى القلب ] . " رواه الأربعة ، والبخارى ومسلم " .
وهم يعرفون كيف أن السلف كانوا يتركون تسعة أعشار الحلال : خوف الوقوع فى الحرام ، فهم يؤمنون بهذا ،ويحاولون العمل به
والله تعالى يقول : ] ولكل درجات مما عملوا [ " هو من كلام سيدنا عمر " ، فهم يؤمنون بهذا ويحاولون العمل به .
أما مسألة الفرق بين الصوفى ، والمسلم ، والمؤمن ، والتقى :
فأن الإسلام شرع لنا تعريف الناس بخصائصهم ، وذكرهم بما يميزهم عن غيرهم ، وقد ذكر الله المهاجرين والأنصار بخصيصتهم : تعريفاً ، وهم مسلمون مؤمنون أتقياء ، وذكر رسول الله e بلالاً الحبشى ، وصهيباً الرومى ، وسلمان الفارسى بما يميزهم من الألقاب ، وهم مسلمون مؤمنون أتقياء .
وذكر القرآن من المسلمين أصنافاً : الخاشعين ، والقانتين ، والتائبين ، والمتصدقين ، والعادين ، والخامدين ، والسائحين وغيرهم ، وكلهم من أهل ] لا إله إلا الله ).
إذن ، فذكر إنسان بخصيصة عُرف بها عند الناس ، سنة قرآنية ونبوية ، وما دامت هذه الطائفة ، قد عرفت باسم الصوفية لسبب أو لآخر ، فليس بدعاً أن تُدعى بهذا الاسم .
ثم لماذا كل هذه الزوبعة هنا ، ولا تكون هناك زوبعة حين يقال (سلفية) ؟! ـو (أزهرية) ، أو (وهابية) ، أو (شافعية) ، أو (مالكية) ، أو(حنبلية) ؟! وهل كان فيما مضى ( جمعية كذا – أو جماعة كذا ) ؟
أرايت أن الأمر كان أهون من أن يكون سؤالاً ، لولا المذهبية المدمرة ، والتعصب الموبق 1؟
السؤال الثالث
ما رأيكم فيما يوجه للتصوف من اتهام بأنه يعود فى أصوله الأولى للبوذية ؟ والمجوسية ؟ والرهبانية ... ألخ ؟
الجواب :
قدمت أن التصوف الإسلامى ، هو الربانية ، فهو : إيمان وعمل ، وعبادة ، ودعوة ، وأخلاق ، وبر مطلق . وهو إرادة وجه الله فى كل قول وعمل ، أو نية ، أو فكر ، دنيوى أو أخروى ، وهو التساوى بالبشرية إلى مستوى الإنسانية الرفيعة ، فهو وحى من الوحى ، وهو الدين كل الدين ؛ لأنه بهذا الوصف ( طلب الكمال ) ، وطلبُ الكمال فرض عين ، وهو علاج لأمراض النفوس ، وما من إنسان إلا وهو مبتلى بجانب – قل أو كثر – من النقص الذى نسميه : مرض النفس ، أو الخلقُ ، وإنما جاءت رسالات السماء كلها لعلاج هذه الأمراض النفسية والخلقية أول ما تعالج فى بنى أدم .
ولما كان التصوف قد تخصص فى هذا الجانب ، كان طلبهُ فرضاً شرعياً ، وعقلياً ، وإنسانياً واجتماعياً – حتى يوجد الإنسان السوى الذى به تتسامى الحياة ، وتتحقق خلافة الله على أرضه ، وينتشر الحب والسماحة بين الناس ، وتأخذ الحضارة والتقدمية روحهما الإيمانى المحقُق لمراد الله .
وأدلة ذلك جميعاً مما لا يغيب عن صغار طلبة العلم ، ومما تزخر به علوم الكتاب والسنة .
ولا أعرف أن الكتاب والسنة نقلاً عن المجوسية ، والبوذية والرهبانية شيئاً أبداً ، وأنما هو الغل المورث للتهم الكواذب ، وتضليل خلق الله .
أما إذا كان المراد بالتصوف فى السؤال ، هو هذه الفلسفات الأجنبية عن العقيدة والشريعة ، فهذا باب آخر ، لا علاقة له بتصوف أهل القبلة ، والاحتجاج بهؤلاء علينا فيه تلبيس الحق بالباطل ، ثم إن أخذ البرىء بذنب المجرم : فعلة دنيئة .
على أن الذين اشتهروا بهذا الجانب الفلسفى ، ممن ينسبون إلى التصوف ، عدد محدود ، قد لا يجاوز العشرة ، وسواء قبلت فلسفتهم التأويل والتوجيه – ولو من وجه ضعيف – أو لم تقبل ، فهؤلاء ، وقد أصبحت كتبهم بما فيها من الأفكار أشبه بنواويس الموتى : تُعرض – إذا عُرضت – للزينة ، او التاريخ والعبرة ، فليس بين صوفية عصرنا من يرى رأيهم ، او يذهب مذهبهم ، سواء على ظاهره ، أو على تأويله .
وأين فكرٌ الجماهير من العمال والفلاحين ، وأنصاف المتعلمين ، أو حتى كبار المثقفين ، من كتب هؤلاء وألغازهم وأحاجيهم ؟!
هذا وإذا أمكن الحصول على الكتب وعلى والوقت ، وليس المر كذلك ، ولا شك أن الوقوف عند هذا الجانب فى هذا العصر : نوع من البحث الأثرى ، عن الحفريات المجهولة ، فى سراديب الرموس والأجداث : عصبية وحمية .
والغاضبون على التصوف جميعاً يحتجون بهؤلاء ، وقد انتهى أمر هؤلاء ، فقد كانت مذاهبهم شخصية ، لا تجد طريقها إلى الجماهير ، لحاجتها إلى استعدادات وقابليات ومدارك ، ومنطق لا يوافق لدى الكافة ومؤاخذة الخلف بفعل السلف- لو سلمنا جدلاً بأنهم سلف – أمر بعيد عن العلم والعدل .
والحكم على الكل بذنب البعض – لو سلمنا بهذه البعضية – أمر بعيد عن العلم والعدل .
ولو أننا إخواننا ( خصوم التصوف ) . نظروا إلى الواقع الفعلى . فكافحوا معنا منكرات العصر ومبتدعاته ، من نحو : الطبل ، والزمر ، والرقص ، وتحريف أسماء الله ، وغير ذلك من مناكر المواد ، والتجمعات العامة ، وأخذوا طريق التعاون بالحسنى ، والدعوة بالحكمة ، لكان هذا أدنى إلى الصواب وأهدى سبيلاً ، عند الله والناس .
أما حملتهم على هؤلاء الموتى ، ممن جنحوا إلى الفلسفة ، فاستئساد على الرمم ، وصيال فى غير مجال ، ومبارزة مع الهواء الطلق ؛ فهؤلاء الموتى ، ما يملكون الدفع عن أنفسهم ، وليس من ورائهم وراث يدافع عنهم ، إلا – إذا وجد – لمجرد التصويب وإحسان الظن بأهل القبلة ، أو لمجرد الثقافة والتاريخ .
وهنا أقر بملء الثقة واليقين ، أنًّ كل ما جاء منسوباً إلى التصوف مما يخالف الكتاب والسـنة ، مهما كان مصـدره ، فليس – فيما نرى – من ثمرة الإسـلام بوصـفه مقام ( الإحسان ) الذى سجله الحديث النبوى المشهور ، كما قدمنا ،وهو فى تساميه أبعد من لهو الفلسفة وعبثها ، وإن تأولت .
السؤال الرابع
ثابت أن المسلمين لم يعرفوا التصوف ، إلا بعد ثلاثة قرون من انتشار الإسلام .
فهل يحتاج الإسلام إلى التصوف ؟
هل التصوف يضيف جديداً إلى الإسلام ؟
وما هو الفرق بين الزهد الإسلامى والتصوف ؟
الجواب :
من الذى قال بأن المسلمين لم يعرفوا التصوف إلا بعد القرون الثلاثة الأولى ؟
هذه مجازفة : ليست بعلمية ، ولا تاريخية ، وليس لها سند ، فإذا كان المراد بأنهم لم يعرفوا لفظ التصوف إلا بعد القرون الثلاثة، فليس هذا بصحيح أيضاً ( هذا الذى قالوه : إنما من كلام ابن تميمة رحمه الله تعالى ، قال فى كتابه " الصوفية والفقراء " :
" الحمد لله : أما لفظ الصوفية ، فإنه لم يكن مشهوراً فى القرون الثلاثة الأولى وإنما اشتهر التكلم به بعد ذلك .
وقد نقل التكلم به من غير واحد من الأئمة والشيوخ كالإمام أحمد بن حنبل ، وأبى سليمان الدرانى ، وغيرهما .
وقد روى عن سيفان الثورى أنه تكلم به ، وبعضهم يذكر ذلك عن الحسن البصرى .
وتنازعوا فى المعنى الذى أضيف إليه الصوفى ؛ فإنه من أسماء النسب كالقراشى ، والمدنى ، وأمثال ذلك ، فقيل : إنه نسبة إلى أهل الصفة ، وهو غلط ؛ لأنه لو كان كذلك لقيل : صُفّى .
وقيل : إنه نسبة إلى الصف المقدم بين يدى الله ، وهو أيضاً غلط ، فإنه لو كان كذلك لقيل : صَفُىٌ .
وقيل : نسبة إلى صوفة بن أُد بن طابخة قبيلة من العرب كان يجاورون بمكة من الزمن القديم ، ينسب إليهم النساك " إلى آخر ما قال) .
فقد اثبت مؤرخو اللغة وغيرهم أن هذا اللفظ كان عندما اشتهروا بالخشونة والرجولة ، ولبس الصوف ، والاستعداد للجهاد ، فإن تصوف المسلمين : دعوة إلى القوة ، والحرية ، والمساواة ، والتكافل ، والإخاء ، والتوحيد ، ومعالى الأمور ، لبناء شخصية المسلم المتكامل ، وكان عهد التدوين قد بدأ بمن كتب الحديث فى عهد رسول e ، وظل ينمو حتى ازدهر فى أواخر القرن الأول ، وأوائل الثانى ، بتحرير الحديث والفقه ، والتفسير ، واللغة ، وما إلى ذلك .
( وقال ايضاً بعد كلام :
" ... والصواب أنهم مجتهدون فى طاعة الله ، كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله ؛ ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده ، وفيهم المقتصد الذى هو من أهل اليمين ... " إلى آخر ما قال رحمه الله تعالى ، فراجعه هناك ." )
أما إذا كان المراد بأن مادة التصوف وحقيقته وأصوله وموضوعه لم تُعرف إلا بعد هذه المدة ، فالخطأ هنا يستحيل إلى خطيئة ، فمادة التصوف من حيث العبادة ، والخلق – على أوسع معانى العبادة والخلق – موجود مشهودة فى الكتاب والسنة ، شأن بقية مواد علوم الدين ، فإذا لم يكن لفظ ( التصوف ) موجوداً فى هذا العقد ، فقد كانت العبادات والأخلاق ، وتربية النفس ، ووسائل العفة بالله ، والارتفاع بإنسانية الإنسان ، كل هذه مسجلة فى دين الله ، وهى التصوف ( سماه الناس كذلك ) كل هذه مسجلة فى دين الله ، وهى التصوف ( سماه الناس كذلك ) فالاسم حادث ، والمادة قديمة بقدم الكتاب والسنة ، شأن بقية علوم الدين سواء بسواء .
ولم يكن هذا بدعاً ، فلم يكن فى هذا العهد علم باسـم ( الفقه ) ولا باسم ( الأصول ) ولا باسم ( مصطلح الحديث ) ، ولا غير ذلك من علوم الدين ، ولكن المادة كانت موجودة بين دفتى الكتاب والسنة . فلا دٌونت العلوم ، ورٌسمت القواعد والمصطلحات ، أطلقت الأسماء حسبما رجحته الظروف الواقعية آنذاك .
وإذن ، فلماذا ننكر تسمية التصوف ، ولا ننكر تسمية بقية علوم الدين ، والشأن واحد !؟
ثم لماذا ننكر تسمية (التصوف) ولا ننكر تسمية (التسلف) ؟!
مزيد بيان التصوف :
فى " لسان العرب " لابن منظور يقول : " الصوف : للضأن ، والصوفه أخص ... ثم قال : والصوفة : كل من ولى شيئاً من عمل البيت الحرام وهو الصوفان .... وصوفة ... أبو حى من مضر ، كانوا يخدمون الكعبة فى الجاهلية ن وهى أعظم ما يولى يومئذ " ... ثم قال :
" وصوفة حى من تميم كانوا يجيزون الحاج فى الجاهلية من منى فيكونون أول من يدفع يقال فى الحج : أجيزى صوفة ... " .
وفى هذا المعنى يقول ابن الجوزى : أنبأنا محمد بن ناصر ، عن أبى اسحق إبراهيم بن سعد الحبال ، قال : قال أبو محمد بن سعيد الحافظ ، سألت وليد بن القاسم : إلى أى شئ ينسب الصوفى ؟ فقال : كان قوم على دين إبراهيم فى الجاهلية يقال لهم : صوفة ، انقطعوا إلى الله عز وجل ، وقطنوا الكعبة ، فمن شبه بهم فهم الصوفية .
ثم قال : فهؤلاء المعرفون بصوفة ، ولد الغورث بن مر ، بن أخى تميم .
وفى المعجم الوسيط : " صَوف فلاناً : "جعله من الصوفية ، و"تصوف فلاناً " صار من لصوفية . " والتصوف " طريقة سلوكية قوامها التقشف والتحلى بالفضائل ،لتزكو النفس وتسمو الروح . " وعلم التصوف " مجموعة المبادئ إلى يعتقدها المتصوفة ، والآداب التى يتأدبون بها فى مجتمعاتهم وخلواتهم . و " الصوفى " من يتبع طريقة التصوف " .
وهكذا يتأكد : أن كلمة التوصف عربية قديمة ، فى لغة العرب ، فمن ارجعها إلى (سوفيا) اليونانية ، فقد جهل وانحرف وقلد العميان ، ومن أدعى إنها بدعة محدثة ، كان أشد جهلاً وانحرافاً ؛ فالتصوف أخلاق ، وعبادة ، ودعوة ، وجهاد ن وسلوك ، فهو وحى من الوحى ودين من الدين .
إن كلمة صوفى بعيدة كل البعد – من حيث المعنى – عن التأثر باليونان ، فقد عرفت واستعملت قبل نهاية القرن الثانى الهجرى ، حيث أطلقت على أبو هاشم الكوفى ( المتوفى سنة 150هـ ) ، وإن هذا النوع من التصوف وليد لحركة الإسلام ذاته ، وإن العرب استمدوا أول علمهم بفلسفة أرسطوطاليس " الذى نقل إلى العربية ، من شرح الأفلاطونية الحديثة ، وليس كتاب " أثولوجيا أرسطوطاليس " الذى نقل إلى العربية حوالى 840 م إلا ملخصاً لمذهب الأفلاطونية الحديثة . ويؤيد هذا الاتجاه المحقق من واقع التاريخ " عباس محمود العقاد " فى كتابة " الفلسفة القرآنية " حيث يقول : " لكن التصوف فى الحقيقية غير دخيل فى العقيدة الإسلامية ؛ لأنه – كا فلنا فى كتابنا – " أثر العرب فى الحضارة الأوربية " : مبثوث فى آيات القرآن الكريم ، مستكن بأصوله فى عقائده الصريحة . فالمسلم يقراً فى كتابه أن ] ليس كمثله شئ وهو السميع البصير [ " سورة الشورى ، الآية : 11 " فيقراً خلاصـة العلم الذى يعلمه دارس الحكمة الإلهية ، ويقر فى كــتابه ] ففروا إلى الله إنى لكم منه نذير مبين [ " سورة الذاريات : الأية 50 " فيعلم ما يعلمه تلاميذ المتصوفة البوذيين حين يؤمنون بأن ملابسة العالم تكاد تكون سعادة الروح ، وأن الفرار منه ، أو الفرار إلى الله : هو باب الجنة ... فالمسلم : الذى يقرأ الآيات – هو مطبوع على التصوف والبحث عن خفايا الآثار ودقائق الحكمة .
أما : هل الإسلام يحتاج إلى التصوف ؟ فإذا كان الشىء يحتاج إلى نفسه ، جاز أن يقال : إن الإسلام يحتاج إلى التصوف .
الإسلام انقياد ظاهرى ، لا يتم إلا بالانقياد الباطنى ، وإلا كان نفاقاً .
والانقياد الباطنى هو : الإيمان بوصفه عملاً من أعمال القلب ، التى نسميها " التصوف " ، فليس التصوف شيئاً غير الإسلام ، حتى يقال :
إنه يحتاج إليه ، او يستغنى عنه ، إنما التصوف هو ذروة الدين كله ، مقام " الإحسان " : التقوى ، والتزكية ، والربانية ، كما قدمنا ، فهو الغاية والثمرة التى لا تتاح إلا لسالك مريد موفقًّ ذَواق .
وهكذا نجد : أن السؤال الذى يقول : هل التصوف يضيف جديداً إلى الإسلام سؤال غير وارد ، والإجابة عليه واضحة فى الرد على الشطر السابق .
أين هذا السؤال من قوله تعالى : ]اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ، ورضيت لكم الإسلام ديناًسورة المائدة ، الآية : 2
أن التصوف الحق هو : الإسلام فى اعلى مستوياته .
ومن اعجب العجب من بعضهم أن يكتب أنه يقبل أوصاف الشكر والصب والورع والزهد والذكر والفكر ، من كتب المتمسلفة ، ولا يقبلها من كتب المتصوفة ، تعصباً وغلاً للذين آمنوا
أما الفرق بينه وبين الزهد الإسلامى : فإن الصوفى أكبر من زاهد فى الدنيا ؛ لأن الزاهد إنما يزهد فى الدنيا ، وهى لا شئ ، فالزهد فى الدنيا زهد فى لا شئ ، والزاهد فى ( لا شئ ) غافل أو جاهل ، لكن زهد الصوفى منصب على كل ما يبعده عن الله ، على أى وضع يكون ، أما كل ما يكره بالله ( ولو على المال ) فليس هو بزاهد فيه .
دخل صوغى على أحد الخلفاء ، فحدثه ، فأجازه الخليفة بما لم يكافئ بمثله أحداً قبله : فاعتذر الصوفى عن قبول عطية الخليفة ، فاندهش الخليفة قائلاً له : ما أزهدك !! قال الصوفى : بل أنت أزهد منى يا أمير المؤمنين .
قال : كيف ؟
قال : لأننى أزهد فى الدنيا ، وهى لاشىء ، وأنت تزهد فى الآخر ، وهى كل شئ . "وهو نوع من التبكيت الواضح "
الزهد عند الصوفية : أن تكون الدنيا فى يده ، لا فى قلبه ، لأن الزاهد ( غير الصوفى ) تاجر ، يحرم نفسه من متع الدنيا ، ليعوضها أضعافاً فى الآخرة ، ولا كذلك الصوفى الذى لا يحرم نفسه متعة أحلها الله ، إلا إذا حجبته عن الله .
وهذا أبو الحسن الشاذلى t ، كان صاحب تجارات ومزارع ، وهذا شمس الدين الدمياطى ، كان تاجراً من أثرى علماء الصوفية ، وهو الذى بنى برج دمياط من ماله الخاص فى عهد السلطان الغورى ، وهذا الليث بن سعد ، فقيه مصر ، وأمام زهادها ، كان أثرى أهل عصره . ولم تمنع هؤلاء أموالهم أن يكونوا أزهد الناس فى الدنيا إذا شغلتهم عن الله عز وجل . ولكنهم لم تشغلهم بعد ، بل كانت طريقهم إليه عز وجل !!
وهكذا يتضح أن سحق الشخصية بالزهد المادى ، والتبتل البشرى مما لا تعرفه قوانين التصوف الإسلامى .
وقد كان من أعيان الزاهدين من الصحابة : بلال ، وسلمان ، وأبو ذر ن وتميم الدارى ، أول من جلس فى مسجد رسول الله e أيام عمر يذكر الناس بالله فى يوم الجمعة .
فإنما الزهد فى حده المحدود ، مما جاء عن كثير من الصحابة والتابعين وتابعيهم كما أسلفنا .
وفى صدر هؤلاء جميعاً زهد ( العمرين ) ابن الخطاب ، وابن عبد العزيز بعد سيدنا رسول الله e ؛ فقد كانت الدنيا فى أيديهم ، ولم تكن فى قلوبهم ، فاستغنوا برب الدنيا عن الدنيا وما فيها ومن فيها .
إن الذى يملك هو الذى يملك ، وهو الذى يزهد ، أما الذى لا يملك ، ففى أى شئ يزهد ؟!
السؤال الخامس
بم تعلل فضيلتكم كون شيوخ التصوف من الفرس ، وأحفاد المجوس ، فى العصر الإسلامى ؟ وكيف تعلل ازدهار التصوف فى القرن السابع ، وما بعده بين العرب والمنتسبين إلى رسول الله e ؟
الجواب :
ليتك يا ولدى لم توجه إلى هذا السؤال العنصرى الذى لا يرضاه الله ولا رسوله ، أو لم تقرأ قوله تعالى : ] إن أكرمكم عند الله أتقاكم [ " سورة الحجرات ، الآية : 13 . وقوله تعالى : ] إنما المؤمنون إخوة [ وقوله e : " لا فضل لأبيض على احمر ، ولعربى على عجمى إلا بالتقوى " " وفى رواية ذكرها ابن كثير فى تفسيره لقوله تعالى : ] إن أكرمكم عند الله أتقاكم : ] يا أيها الناس ، وأن الله تعالى قد أذهب عنكم غبية بالجاهلية وتعظمها بآبائها ، فالناس رجلان : رجل يرتقى كريم على الله ، ورجل فاجر شقى هين على الله [ إلى آخر الحديث الذى رواه أبن أبى حاتم [ " . وقوله e " إن الله أذهب عبية الجاهلية وفخرها بالآباء ؛ مؤمن تقى ، وفاجر شقى ،أنتم لآدم وآدم من تراب . وقوله e ، وقد تمعر وجهه غضباً : " ليدعن أقوام بأقوام إنما هم حطب من حطب جهنم ، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التى تدفع بأنفها النتن " ومن نصوصه : ( لينتهين أقوام يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا إنما هم فحم جهنم ، أو ليكونن أهون على الله من الجعل الذى يدهده الخراء بانفه . إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية فخرها بالآباء ؛ إنما هو مؤمن تقى ، وفاجر شقى ، الناس كلهم نو آدم ، وآدم من تراب " رواه الترمذى .
ألم يأتك أن سيدنا رسول الله e ألحق به سيدنا سلمان الفارسى ، فقال : " سلمان منا أهل البيت " – ألم يرسل الله رسوله للناس كافة بشيراً ونذيراً ؟!
إنها حمية الجاهلية ، يرددها ببغاوات البشر ، بلا تدبر ، ولا بينة ، وهل جاء الإسلام للعرب وحدهم ، فاغتصبه منهم غيرهم ، فأصبحوا منبوذين ؟!
لم هذه الشعوبية ، والعنصرية الكريهة ، التى ينكرها الإسلام ، وتنكرها الإنسانية الشريفة ؟!
أليس الإمام البخارى ، والترمذى ، والنسائى ، وابن ماجه ، والطبرانى ، والبيقهى ، والاكثرية الغالبة من رجال الحديث ، كلهم من غير العرب ، وكذلك طائفة من أكبر المفسرين ، كالزمخشرى ، والنيسابورى ، ، وطائفة من أكبر علماء البلاغة ، كالجرجانى ، والتفتازانى !؟ من هو طارق بن زياد ، وموسى بن نصير ، هذان الموليان القائدان الفاتحان ، اللذان أسسا للإسلام مجداً تاريخياً ، لا يمحوه الزمان ؟
من هو ابو حنيفة النعمان ؟ اليس كان من الموالى ، ولولاه ما كان لبنى تيم الله ذكر ولا فخر " أبو حنيفة من الأفغان ، قالوا من كابل
يا ولدى : إمام مصر الليث بن سعد ، أصله من ( أصبهان ) ، أمام أهل السنة ، احمد بن حنبل ، أصله من ( مرو ) والإمام المفسر الطبرى ، أصله من ( طبرستان ) ، والشعبى علامة التابعين وغمامهم ، كانت أمه من ( جلولاء ) ، والحسن البصرى ، الكوكب الفرد ، ، كان أبوه من ( ميسان ) .
وهذه علاّمة اللغة سيبويه ، فارسى الأصل ، والأمام الكسائى ، فخر اللغة العربية ، أصله من فارس ، وتلميذه الإمام الفراء من الديلم ، ثم أن إبن مسكويه وابن سينا ، والفارابى ، كانوا فرساً أعجمين .
اسمع يا ولدى : فقيه مكة ، عطاء بن رباح ، وفقيه الشام : مكحول ، وفقيه الجزيرة : ميمون بن مهران ، وفقيه خراسان : الضحاك بن مزاحم ، وفقيها البصرة والكوفة : إبراهيم النخعى وابن سيرين ، كل أولئك ليسوا من العرب أصلاً ، ولكنهم برزوا فى جوانب العلم والفكر والمعرفة والدين ؛ كانوا الأئمة بكل ما فى اللفظ من معنى يتجدد ولا يفنى .
إنما يتفاضل الناس بالأحلام " العقول " ، لا بالأرحام ، والناس عند الله سواسية كأسنان المشط ، والله يقول : ] و لا تنسوا الفضل بينكم [ " سورة البقرة : الأية : 237 " ولقد أمر رسول الله e أسامة بن زيد ( مولاه ) على جيش كان فيه أبو بكر وعمر . وعندما أراد عمر أن يستخلف قال : " لو كان سالمُ مولى حذيفة حياً لوليته !! " .
تأمل هذا الموقف الخطير .
ا ولدى ها هام أهل العلم : لا يكادون يذكرون ابن عمر ذكروا معه مولاه نافعاً ، ولا يكاد يذكر أنس بن مالك ، إلا ومعه مولاه ابن سيرين . ولا يكاد يذكر ابن عباس ، إلا ومعه مولاه عكرمة . ولا يكاد يذكر أبو هريرة إلا ومعه مولاه ابن هرمز .... وما اكثر هذه الامثلة فى الإسلام .
لقد\ أطلت عليك – عامداص فى هذا المجال – يا ولدى ؛ فإن هذه الشعوبية هى التى كانت مسمار النعش فى وحدة الإسلام ، والتى انتهت بما يسمى زوراً " النهضة العربية " وهى التى قصمت ظهر الخلافة ، وشتت العرب أوزاعاً وشيعاً ودويلات هزيلة متناحرة باسم العروبة ، والقومية ، التى تٌستخدم الآن بلا وعى ولا تدبر .
ولنرجع إلى سؤالك فى تعليل كون بعض الشيوخ الصوفية اوائل من الفرس ؛ فهؤلاء الناس اجتهدوا فى هذا الجانب ، كما اجتهد غيرهم ممن ذكرنا أسماءهم ، فاستحقوا التقديم والإمامة كمسلمين ، فإذا قيل :
إنهم فعلوا ذلك ليحطموا الإسلام من الداخل ، فهذه قضية ، إذا فرضنا نهوض دليلها فى واحد ، فلن ينهض هذا الدليل فى كل واحد . وفى كل طائفة طيب وخبيث ، والحلال بين والحرام بين ، ولو طبقنا قاعدة سوء الظن بالفرس ، أو بغير العرب عموماً ، لأذهبنا ثلثى علوم الإسلام ، ولكان أول ما ننبذه كتاب البخارى ، ومن والاه ، فهل هذا منطق يقول به إنسان سوى أو قاض منصف ؟ ( ألا يظن أولئك أنهم مبعثون . ليوم عظيم ) " سورة المطففين : الإية 4 ، 5 " أولا يذكرون قول الله تعالى : ] وقالوا ما لنا لا نرى رجالاً كنا نعدهم من الأشرار [ " سورة : ص : الآية 62 ."
إن من إحفاد المجوس : من خدم الإسلام أصدق الخدمات فى الثقافات والعلوم ، والفتوحات والفنون ... وراجع إن شئت من حضرنا ذكرهم وأسلفناه، ومن ورائهم صف شريف طويل معروف ، لم نشر إليه ، وهؤلاء شــأنهم – بالضبط شـأن كبار الصحابة ( وقد كانوا – أى الصحابة – من المشركين ) .
أما تعليل ازدهار التصوف فى القرن السابع ، وما بعده بين العرب ، والمنسوبين بحق أو بباطل إلى رسول الله y فإن هذا السؤال يحتاج إلى تكملة : هى أن هذا الازدهار فى هذا القرن وما قبله ، كان بين العرب وغيرهم ، وكان هذا نتيجة لطبيعة الأشياء ؛ فإن تطور الدعوة الصوفية وامتدادها ، كان قد أهل الكثيرين للزعامة والاجتهاد فى هذا الوقت ، كثمرة للتفاعل ، والتطور فيما سبق هذا الزمان .
فمثلاً : نجد من صوفية القرن السابع أمثال أبى الحسن الشاذلى ، وأحمد البدوى . وابن دقيق العيد ، ومجد الدين القشيرى ، وزكى الدين المنذرى – ونجد من قبلهم فى القرن السادس أمثال أحمد الرفاعى ، وأبى مدين . ونجد فى القرن الخامس ، أمثال الغزالى ، وعبد القادر الجيلانى . وفى الثالث والرابع أمثال : الجنيد ، والشبلى ، ومن قبلهم ذو النون المصرى ، وأبو يزيد . ومن قبلهم الحسن المصرى ، وسفيان الثورى ، ومالك بن دينار ، وإبراهيم بن أدهم والفضيل بن عياض ، وشقيق البلخى ، وحاتم الأصم – بكل ما فى تواريخهم من صدق وكذب ، وأصيل ودخيل .
أضف إلى ذلك موضوع التطور والامتداد ، وقابلية البيئة ، بما كان من الحروب الصيلبيية والتترية والمغولية ، واضطراب عاصمة الخلافة ببغداد ، ومثل هذه الظروف بطبعها تدفع الناس إلى الله تلقائياً ، وقد جربنا نحن أخيراً فى العاشر من رمضان ، فمن أجل هذا وما هو منه ، أو يتعلق به ، كان هذا الازدهار الذى تشير اليه .
السؤال السادس
من الاتهامات الموجهة إلى التصوف :
أنه لا سند له من الكتاب والسنة .
أنه دخيل على الإسلام .
أنه يدعو إلى عقائد تتعارض مع عقيدة التوحيد ، كالحلول ، والاتحاد والوحدة .
أنه يدعو إلى تقديس المشايخ ، والاستعانة بهم فى الشدائد ، واعتقاد أنهم يملكون النفع والضر .
أنه يدعو إلى التواكل والسلبية .
الجواب :
أما أن التصوف لا سند له من الكتاب والسنة . فقول ساقط بعد كل ما قدمنا ، فإذا لم يكن التعبد ومكارم الأخلاق ومحاسبة النفس ، والأخذ بالأحوط ، ومجاهدة الهوى والشيطان ، إذا لم يكن كل ذلك له سند من الكتاب والسنة ، فقد جهل الناس الكتاب والسنة ، وفيما ذدمن أدلة مكررة على أن تصوف المسلمين هو عصارة الإسلام وإكسيره ، لا يمترى فى ذلك إلا ذو هوى ، أو من هوى !؟.
وبهذا ، وبالذي قدمنا ، يتأكد أن التصوف نابع من العقيدة ، والبيئة الإسلامية جملة وتفصيلاً ، وليس هو بدخيل على دين الله ، إنما الدخيل ، هو هذه الدعوى العصبية المتشنجة ، التى تفوح بالغرض ، والمرض ، وحسبك أنها بضاعة استشراقية ، استعمارية صهيونية ، لا هم لها إلا انتقاض الإسلام .
أما أن التصوف يدعو إلى عقائد الحلول والاتحاد والوحدة ، فليس هذا هو تصوف المسلمين ، وإنما هو تصوف أجنبي ، أعجمي ، مدسوس والمتهمون به نفر معدود محدود ، انتهى أمرهم ، وليس لهم اليوم تابع ولا وارث ، كما قدمنا ، وأصبح ما نسب إليهم بحق أو بباطل ، سواء قبل التأويل ، أو لم يقبله ، نوعاً من الحفريات التاريخية ، التى لا يتابعها إلا الهواة والمتخصصون ، إن وجد اليوم هواة أو متخصصون فى البحث عن مقابر الأفكار المهملة ، وإلا أصحاب الهوى الذى يعمى ويصم ، ولا اعتبار لأولئك و هؤلاء .
وقد اصبح الكلام اليوم فى هذا الجانب نوعاً من مجرد الإثارة والتشويه ، والعبث وإضاعة الأوقات ، والتشويش على أفاضل الناس وشراء العاجلة بالآجلة .
وإنما يقول الصوفية بنوع معين من الفناء ، فصله الشيخ ابن تيميه فى ( رسائله ) بشئ من الإنصاف ، وأشار إليه الشيخ ابن القيم فى شرحه على كتاب الهروى " كتاب منازل السائرين لشيخ الإسلام : عبدالله بن محمد بن إسماعيل الآنصارى الهروى الحنبلى الصوفى المتوفى سنة 481 هـ ، شرحه أبو بكر بين قيم الجوزية الدمشقى الحنبلى المتوفى سنة 481 هـ ، شرحه أبو بكر بن قيم الجوزية الدمشقى الحنبلى المتوفى سنة 751 هـ ، وسماه " مدراج السالكين "
وشتان ما بين هذا والقول الفاجر بالحلول ، والاتحاد ، والوحدة المنكرة .
أما أن التصوف يدعو إلى تقديس المشايخ ، والاستعانة بهم فى الشدائد ، واعتقاد أنهم يملكون النفع والضرر : فهذا كلام فه تجاوز ومغالطة ؛ فإن التصوف يدعو إلى احترام الشيخ كوالد روحى ، وهو أدب إسلامى مقرر ، لا خلاف عليه . وفى الحديث الصحيح " ليس منا من لم يوقر كبيرنا ، ويرحم صغيرنا ، ولم يعرف لعالمنا حقه " رواه الترمذى عن ابن عمر ، وأبو يعلى عن أنس ، والعسكرى عن عبادة ابن الصامت ، والقضاعى عن ابن عباس " ، و لا تنس تأديب الله للصحابة مع رسول الله y ، فهو أصل أدب التابع مع المتبوع " راجع سورة الحجرات " .
أما الاستعانة بدعاء الشيخ ، وابتهاله إلى الله فى شدائد ابنائه ، فهو أدب إسلامى ثابت ، يعرفه كل من قراً ( باب الدعاء ) فى كتب المسلمين .
أما أنهم يزعمون أنهم يملكون النفع والضرر ، فالذى يملك هو الله وحده ، وعندما يغضب الشيخ لربه من مخالف لله فيدعو ، فيغضب الله لغضب وليه ، ويستجيب له ، فلا يقال عندئذ إن الشيخ يملك نفعاً ولا ضراً ، إنما هو من باب : "" لئن سألنى لأعطينه ، ولئن استعاذنى لأعيذنه " وم نصوصه ، ما رواه الطبرانى فى معجمه الكبير عن أبى أمامة رسول الله y قال : قال الله تعالى : ( ما يزال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه ، فاكون سمعه الذى يسمع به ، وبصره الذى يبصر به ، ولسانه الذى ينطق به ، وقلبه الذى يعقل به ، فإذا دعانى أجبته ، وإذا سألنى أعطيته ، وإن استنصرنى نصرته ، وأحب ما تعبدنى عبدى به : لى " .
والقول بغير هذا إنما هو مسخ للصورة بالمغالاة والإغراق والتنفير .
وإذا كان هناك شئ من ذلك فرضاً جدلياً فهو مما يعالج بالبيان والإرشاد والقول الطيب ، ونحن أمة تحكمها الأمية ، فلا ننكر أن فيها ضلالة وجهالة ، وإنما فى حاجة – أشد الحاجة – إلى النصح والتوجيه بالحكمة البالغة ، والموعظة البليغة .
بقى القول بأن التصوف يدعو إلى السلبية والتواكل .
التصوف الحق هو : الإسلام ، وليس فى الإسلام سلبية ، ولا تواكل ، وإنما هى أمراض اجتماعية لصقت بالتصوف زوراً وبهتاناً ، وقد كان عبد الله بن المبارك ، يحج عاماً ويجاهد عاماً ، وقد كان شقيق البلخى فارساً مغوراً ، يطلب الموت حتى استشهد فى سبيل الله ، وكذلك كان حاتم الاصل ، مقاتلاً بارعاً ، له فى الجهاد مواقف وكرامات .
وقدمت أن أبا الحسن الشاذلى كان صاحب مزارع وتجارات ، وأن شمس الدين الدمياطى بنى برج دمياط من ماله الخاص ، ومن ربحه من تجارته .
وغذ1 تتبعت آداب المريدين بالصوفية ، لوجدتهم جميعاً يدفعون تلاميذهم إلى العمل والإنتاج ، ويعرفون تماماً كل ما ورد فى هذا الباب عن النبى y ، ثم عن أشياخهم فى الله الذين يؤكدون لهم أنه لا يمكن تحقيق خلافة الله على الأرض بالسلبية والتواكل والاستسلام ، فإذا تغالى أو تطرف واحد ، فليس هو كل واحد .
ولقد ثبت فى الحديث أن بعض الصحابة تغالى بأكثر مما يفعل الرهبان ، والنبى y حىّ ، فنهاهم الرسول y " وحديث نهى النبى y عن التبتل متفق عليه ، ورواه الإمام أحمد ، وأبو دواود عن سعد ، وأحمد الترمذى والنسائى وابن ماجه عن سمرة .
وروى الدرامى عن سعد بن أبى وقاص " رضى الله عنه " أنه قال : " لما كان من أمر عثمان ابن مظعون قال : يا رسول الله : إنى رجل تشق على هذه العزوبة فى المغازى فتأذن لى يا رسول الله فى الخصاء فأختصى ؟
قال : لا ، ولكن عليك يا ابن مظعون بالصيام فإنه مجفرة " .
لإذا انفرد واحد بمغالاته ، فليس هذا بقانون ولا قاعدة فى الجميع ، ولا بعار يؤخذ به سواه .
نزل أحد المريدين على زاوية الشيخ ضيفاً ، فأقراه ثلاثة أيام .
ثم قال له : يا ولدى قد انتهت مدة الضيافة .
فقال المريد : إنما جئت لأتصوف .
فقال الشيخ : " ليس التصوف عندنا أن تصف قدميك وغيرك يمون لك ، ولكن أبداً برغيفيك فأحرزهما ، ثم تصوف ، ثم اجعل منشارك مسبحتك ، واذكر على دقات الفأس والمكوك " .
وقد كانت الألقاب الصوفية تدل على ما يتناولونه من حرف ومهن وصناعات :
فمنهم الدقاق ، والسماك ، والوراق ، والخواص ، وهكذا تعرف أنهم كانوا بحق أمثالاً للمسلم الكامل إيماناً ، وعملاً وإيجابية ، وصلة كبرى بالله .
فالتواكل مرض دخيل على التصوف الصحيح ، يعالجه صوفية العلماء ، كل بأسلوبه .
السؤال السابع
أولياء الله ، من هم ؟
وهل يجوز تعيين ولى لله بالاسم ؟
وهل الولاية تورث بالأسرة ؟
الجواب :
أولياء الله هم عباده الصالحون ،الذين نسلم عليهم فى كل صلاة كلما قرأنا التشهد ، وعلى رأسهم الأنبياء ، عليهم صلوات الله وسلامه ، ثم يليهم فى ولاية الله أتباعهم ، فأصحاب سفينة نوح ، وأصحاب ميقات موسى ، والحواريون مع عيسى والراشدون ، ومن تبعهم بإحسان ، والائمة من أمة مولانا رسول الله ، كل أولئك ، ومن على أقدامهم هم الأولياء الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون " .
والشرط فى الولى : الإيمان ، والتقوى ، كما جاء فى الآية ] الذين آمنوا وكانوا يتقون [ " سورة فصلت ، الآية : 18 " ثم ( الصلاحية للنيابة عن حضرة المصطفى y ] والله يتولى الصالحين [ " لقوله تعالى ] وهو يتولى الصالحين [ من سورة الأعراف ، الآية : 196 " .
فالصلاحية بمعنى الصلاحية التى تستوجب كفاية معينة فى الجوانب الثقافية والروحية ،
والذاتية والتعبدية ، حتى يكون العبد أهلاً للتبليغ ، ووارثة النبوة ، وسيادة البشرية ] ولقد كتبنا فى الزبور من بعد الذكر أن الرض يرثها عبادى الصالحون [ " سورة الأنبياء ، الآية : 105 وهنا ينكشـف البون الهائل ، ما بين ( الولاية ) و( الــبلاهة ) ، وما بين ( الولايـة ) و( الاحتراف ) ، وأن الولاية كسب غال بمجهود أغلى أو هى اجتباء بحكم المشيئة الإلهية ، كما جاء بالآية ] الله يجتبى إليه من يشاء ، ويهدى إليه من ينيب [ " سورة : الشورى ، الآية : 13 ) .
وتعيين رجل توافرت فيه الشروط بوصف الولاية ، لا يتعارض مع مبادئ الإسلام – فيما أعرف – وقد وصف علماء الحديث رجالاً بأوصافهم لا حرج .
أما أن الولاية ميراث حتمى : فذلك ما لاعلم للتصوف به .
ولابد هنـا من الإشــارة إلى أننى أتحدث عن ( التـصوف ) ، وهنــاك شئ آخر نسـميه ( المتصوف ) وهذا هو الذى أساء إلى التصوف ، ومازال ، وسوف يبقى كذلك ، ما لم يشأ الله شيئاً ، وما لم ينقذ الله التصوف من التردى الذى يعانيه .
كما أنه لابد من الإشارة إلى أن للولاية معانِ شتى جاءت بها كلمات القرآن والحديث ، تدور حول أولياء الرحمن ، وأولياء الشيطان ، وقد حصرنا الكلام هنا ، فيما نرجح أنه المقصود وفى الحجم المطلوب للصحيفة . ( فنحن هنا للقارئ عناوين ومؤشرات فقط وللبحوث مقام آخر ) .
السؤال الثامن :
لماذا يبدى الصوفية ولعاً شديداً :
بإقامة الأضرحة ؟
وبإقامة الموالد ؟
والتماس بركة الموتى ؟ ... وما سند ذلك من الكتاب والسنة ؟
الجواب :
الصوفية لا ييأسون من الموتى ] كما يئس الكفار من أصحاب القبور [ " آخر سورة الممتحنة " وهم يرون أن الموت مرحلة من مراحل السفر الإنسانى الكادح إلى الله ، فالميت عندهم حى حياة برزخية ، وللميت علاقة أكيدة بالحى ، بما صح عن رسول الله y من احاديث ، رد الميت السلام على الزائر ، ومعرفته ، وبتشريع السلام على الميت عند قبره ، ومحادثته لموتى ( القليب يوم بدر ) ، كما وردت فى عدة أحاديث ثابتة .
ومن القرآن حسبك قوله تعالى ( ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم )" سورة آل عمران ، الآية : 17 [ - فهناك إذن علاقة مؤصلة بين الحى والميت ، وإلا الدعاء والسلام على الميت موجهاً إلى الأحجار !!
ومعنا رسول الله لأهل البقيع ، والسلام عليهم وتكليمهم والدعاء لهم .
وللأمام ابن قيم الجوزية ( تلميذ ابن تميمة ، وحواريه ، ووارث دعوته ) له كتاب الروح وقد أثبت فيه كل مذهب الصوفية ، بما لا مزيد عليه ، فى موضوع الحياة بعد الموت ، وعلاقة الأرواح بالأحياء ، ولابن أبى الدنيا فى ذلك تأليف مفيد .
والصوفية يعتقدون : بحق : أن الولى فى الدنيا ولى بخصائصه الروحية ، وماهبه الرهبانية ، والخصائص والمواهب من متعلقات الرواح ، ولا ارتباط لها بالأجسام ألبتة ، فالولى حين يموت ترتفع خصائصه ومواهبه مع روحه إلى برزخه ، ولروحه علاقة كاملة بقبره ؛ بدليل ما قدمنا من السلام عليه وده السلام ... إلخ . ومن هنا جاء تكريم هؤلاء السادة الصالحين من أصحاب القبور .
وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع حجراً على قبر بعض الصحابة ، وهو عثمان بن مظعون رضى الله عنه " فى أسد الغابة : أنه لما توفى سيدنا إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الحق بالسلف الصالح : عثمان بن مظعون " . وأعلم النبى صلى الله عليه وسلم قبر عثمان بن مظعون بحجر ، وكان يزوره " ، وقال : " أتعرف به قبر أخى " وكان هذا الحديث ، بعد حديث على t بتوسية القبور المشرفة ، فاستدلوا به على جواز اتخاذ ما يدل على القبر ، وعلى فضل صاحب القبر بلا إغراق ولا مبالغة ، رجاء استمرار زيارته ، والدعاء له والقدوة به ، والصدقة عليه ، وحفظ أثره .
ومن هنا نقل الميت من مكان إلى مكان أفضل ، كما صح فى حديث جابر غيره .
ثم بالغ بعض الناس فى لك – بحسن نية من جانب ، وخوف اندثار القبر من جانب آخر – فاتخذ الآمر بالتطور الصورة التى تراها ، وقالوا : إن الأمر يدور مع علته ، وقد كانت علة تسوية القبور ، والمنع الأول من زياراتها ، هى مخالف الانتكاس والعودة إلى الشرك ، وقد استقر الإيمان والتوحيد فى قلوب الناس ، ( وإن أخطأت أحياناً ألسنتهم ) فلا باس بعمل ما يذكر الصالحين للقدوة والاعتبار ، والقيام بحق صاحب القبر من الزيارة وغيرها
( وقد نقلنا آراء علماء المذاهب فراجعها فيما يأتى ) .
هذه هى وجهة النظر عندهم بصفة عامة : وهى على علاتها – أبعد شئ عن التهويل بالشرك والوثنية ، والكفر والرردة ، واستحلال دماء المسلمين ، وقد مرت السنين على هذه الأضرحة ن فما عبد منها ضريح من دون الله – ولا صلى مسلم لولى ركعة ، والمثل العملى مضروب بقبر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبور كبار الائمة .
أما ما يكون على عادة من بدع الزيارات ومناكرها ، فأمور يمكن تقويمها بالتعاون على علاجها بالتى هى أقوم .
وإننى مستيقن – سلفاً بأن هذه الكلمات بالذات ، ستنبرى لها ألسن وأقلام احترفت خصومة هذا الرأى ، واتخذته أساس مذهبها ، وهو كل دعوتها وبضاعتها ، ولكنى أعرض الرأى ، ولا أدعى العصمة ، ولا أحتكر الصواب ، وأرى أن كل أحد يؤخذ من كلامه ويرد عليه ، إلا ما جاء عن الله ورسوله . بقدر ما أعرف سلفاً ، كافة النصوص المقابلة ، ووجهات النظر الأخرى ، فالحديث هنا قديم ومكرر ، لا جديد فيه على الإطلاق ، والتقريب بين وجهات النظر ممكن . ولكن لا حول ولا قوة إلا بالله ، وارجع إن شئت إلى ما كتبناه بتفصيل عن التوسل والقبر فى رسالة ( قضايا الوسيلة والقبور ) .
أما الاحتفال بالمولد : فهو ما لم يكن بصورته هذه فى الصدر الأول ، وهو – على وضعه الحالى – فيه المقبول والمرفوض ، وإن كان المرفوض قد غلب فعلاً على المقبول ، ولابد من وقفة إصلاح ؛ فإن القائلين بالإلغاء يطالبون بغير الممكن أصلاً ، ولا ينظرون إلا إلى الجانب المرفوض وحده .
أن أول من احتفل بذكرى المولد النبوى ، هو الملك المظفر ( طغرل ) ملك ( إربل ) العراق ، بموافقة الإمام أبى شامة ، والعلماء .
ثم التقط الفاطميون الحبل ، فزودا وتوسعوا .
وقد التمس علماؤنا الدليل ، فوجدوا أن الله كرم يوم الولادة ، ويوم الموت ، والبعث مرتين ، مرة بلسان القرآن ، وأخرى حكاية عن لسان عيسى عليه السلام " ] وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت يبعث حياً [ - ] والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً [ " سورة مريم .
أذن فليوم الولادة منزلة عند الله ، ثم نظروا فوجدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلازم صوم يوم الاثنين من كل أسبوع ! فسئل فى ذلك ، فقال : " هو يوم ولدت فيه ، وأنزل على فيه " كما ثبت فى الحديث الشريف .
ومعنى هذا : أنه y كان يحيى ذكره مولده الشريف ، شكراً لله تعالى فى كل اسبوع مرة بالصيام ، وربما بما تيسر له من خير ، فهو يوم من أيام الله ، وقد أهتم رسول الله y بأيام الله ، كما فعل فى يوم عاشوراء ، وكما فعل فى ( سبوع ) الحسن والحسين ، بالإضافة إلى ما ورد من أنه ذبح y فى حجة الوداع ثلاثاً وستين بدنة ، بعدد سنى عمره الشريف .
ومن مجموع هذا ، وما هو منه ، يمكن استنباط مشروعية إحياء الموالد ، لما فيها من الذكريات النافعة ، والعبر الموجهة ، وبما فيها من تلاوة القرآن ، والوعظ والإرشاد ، والذكر الصحيح ، والثقافة ، ثم بما فيها من التعرف على البر والتقوى ، والرواج الاقتصادى والصدقات ، والحركة الاجتماعية ؛ فهى بهذا الوصف أسواق خير ونفع عام لا تضيق به اصول الأحكام الشرعية ، ولا فروعها ، بل إنها تدعو إليه ، وتحض عليه
ثم إن الله تعالى يقول : ] وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [ " الانبياء : الاية : 107 " إذن ، فليوم الولادة منزلة عند الله ، ثم نظروا أن رسول الله y كان يلازم يوم الإثنين من كل أسبوع ! فسئل فى ذلك ، فقال : " هو يوم ولدت فيه ، وأنزل على فيه " كما ثبت فى الحديث الشريف .
ومعنى هذا : أنه y كان يحى ذكرى مولده الشريف ، شكراً لله تعالى فى كل اسبوع مرة بالصيام ، وربما بما تيسر له من خير ، فهو يوم من أيام الله ، وقد اهتم رسول الله y بايام الله ، كما فعل فى يوم عاشوراء ، وكما فعل فى ( سبوع ) الحسن والحسين ، بالإضافة إلى ما ورد من أنه ذبح ( صلى الله عليه وسلم ) فى حجة الوداع ثلاثاً وستين بدنة ، بعدد سنى عمره الشريف .
ومن مجموع هذا ، وما هو منه ، يمكن استنباط مشروعية إحياء الموالد ، لما فيها من الذكريات النافعة ، والعبر الموجهة ، وبما فيها من تلاوة القرآن ، والوعظ والأرشاد ، والذكر الصحيح ، والثقافة ، ثم بما فيها من التعرف على البر والتقوى ، والرواج الاقتصادى والصدقات ، والحركة الاجتماعية ؛ فهى بهذا الوصف أسواق خير ونفع عام لا تضيق به أصول الأحكام الشرعية ، ولا فروعها ، بلى أنه تدعو ايه ، وتحض عليه .
ثم إن الله تعالى يقول ] وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [ " الأنبياء : الاية : 107"
ويقول صلى الله عليه وسلم ( إنما رحمة مهداة " وقد أمر الله تعالى أن نفرح بفضله ورحمته y قل بفضل الله وبرحمته ، فبذلك فليفرحوا [ " سورة : يونس y ، الآية : 58 . فإحياء ذكرى مولد الرسول الله y بالمشروع من العبادات والخيرات ونحوها ، إنما هو فرح برحمة الله ، فهو تنفيذ لأمره تعالى .
كذلك نحن مأمورون بالشكر على النعمة ، وما جاء به رسول الله y بشروطها : نوع منشكر النعمة ، وهو واجب قرآنى صريح .
وعلى نحو ذلك أو بعضه ينسحب حكم مشروعية إحياء ذكريات موالد الله جميعاً ، بشروطها المقررة .
وهنا يجب أن نقرر أيضاً القاعدة العلمية الثابتة : بأنه ليس كل ما لم يكن فى الصدر الأول هو حرام ، وإلا فلم يبق فى حياتنا شئ حلال .
وفيما عدا هذا – مما اندس فى هذه التجمعات من امفاسد الخلقة والينية والاجتماعية وغرها – فالحكومة والصوفية الرسمية ، والجمهور ، هم المسئلون جميعاً عنها ، فى الدنيا والآخرة . وهو شئ عم وطم واورث الهم والغم .
السؤال التاسع
يقول الصوفية بضرورة وجود الشيخ ، لتوصيل المريد إلى ربه ، ويقولون : من لا ضيخ فالشيطان شيخه ، فهل هذا صحيح ؟
الجواب :
يا ولدى : الصوفية فى هذا يصدرون عن صحيح الشريعة ، وصحيح لطبعة ، وصحيح التجربة ، وصحيح التجربة ، وصحيح الممارسة والواقع .
أما الشريعة فالله تعالى يقول : ] فاسألوا أهل الذكر [ " سورة الأنبياء ، الآية : 7 " ويقول ] الرحمن : فاسأل به خبيراً [ " سورة الفرقان ، الآية : 59 " ويقول ] ولكل قوم مهاد [ " سورة الرعد ، الآية 7 " ويقول : ] ولا ينبئك مثل خبير [ " سورة فاطر ، الآية : 14 ] أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده [ " سورة الأنعام ، الآية : 90 . ] واتبع سبيل من أناب إلى [ " سورة لقمان ، الآية : 15 . ] وقد كانت لكم أسوة حسنة فى إبراهيم والذين معه [ . وفى الحديث الثابت : هلا سألوا ، فإن دواء العى السؤال ! " " سورة الممتحنة ، الأية 4 " .
وإذن : فلابد من هاد= قدوة سئول ، ذا ذكر ، خبير بوسائل الفرار إلى الله ، والهجرة إليه ، ألم تر إلى موسى كيف طلب المرشد ليتبعه ، كما جاء فى سورة الكهف ، وكيف كان أدب موسى مع مرشده .
ولذا كان لابد لطالب حفظ القرآن من المقرئ الموقف الخبير بأحكام التلاوة ، وصحة الأداء ، ولو ترك القارئ العادى لنفسه ، لاستحال عليه أن يحصل حق التلاوة وصحة الأداء ، وبالتالى ربما اضطربت معه مفاهيم الآيات ، وغابت الأحكام ، وقل ذلك فى علوم الدين واللغة ، وكل علوم الدنيا فكرية كانت أم عملية ، حتى الحرف والمهن والصناعات ، مهما علت أو دنت ، لابد لها من اختصاصى يلقنها ويكشف أسرارها ، فما لم يكن للمرء شيخ فى العلم ضل وافترسه الشيطان ، واستهواه وجعل إلهه هواه ، فهلك .
وما لم يكن للمرء معلم فى بقية الصناعات لما أصاب ولا أجاد وربما أهلك وهو يطلب الحياة ، ومن هنا كان لابد للسالك إلى الله من غمام يرشده ويوجهه ويسدده ، ويكشف له أحابيل الشيطان ، فى العبادات والمعاملات ، والخطرات النفسية والإرادات القلبية ، والواردات التى قد تكون أخطر على صاحبها من الكفر على صاحبها من الكفر الصريح .
يا ولدى : فكر فى مو4ف الإمام فى الصلاة ، وفى تلقى الرسول عن جبريل عليهما الصلاة والسلام .
ولهذا سجل كبار ائمتنا أخذهم وتقيهم عن كبار شيوخهم ، كابراً عن كابر ، بالإجازة الشريفة ، والثبت المحكم ، وسواء فى العلوم ، او فى تلقى البيعة الصوفية ، واتصال السند ، ولا يزال فى عصرنا هذا يستعد الطالب لأعلى درجات الثقافة ( الدكتوراه مثلا ) ولابد له من مشرف يشاركه رحلة العلم والجهد ] وما يستوى الأعمى والبصير [ " سورة الرعد ، الآية : 16 "
وقد تلقينا من قواعد أهل العلم ( غير الصوفية ) قولهم : " لا تأخذ العلم من صحفى ولا القرآن من مصحفى " .
و" الصحفى " : هو الذى جمع محصوله من الصحف وحدها ، دون مرشد .
و" المصحفى " : من قرأ القرآن وحده ، من غير موقف ، وهذا مجرح عند اهل العلم .
ثم تأمل مرة أخرى بعثة الرسل إلى الناس ، ونزول جبريل y على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالتوجيه والهداية .
ولا تنس يا ولدى : أن التقاء روح الطالب والأستاذ ، وتبادل الود ، ووحدة الإرادة ، واندماج الشخصيتين بالحب والتسامى ، وقصد وجه الله : فيه أثر روحى ونفسى مقرر عند أهل العلم بالقديم والحديث ، وحين يكون السند موصولاً ، يكون من ورائه سر مجر ، يسميه الصوفية ( بركة السند ) ، وإن لم يؤمن الجاهلون بسره ألا ترى قوله تعالى : ] وداعياً إلى الله بإذنه [ " سورة الأحزاب ، الآية 46 . تأمل ، فمن هنا تبدا البركة ، ثم تتسلسل !!
وأظن فى هذا الإجمال كفاية إن شاء الله ، وإلا فـــ ] إنك لا تهدى من أحببت [ " سورة القصص ، الآية : 56 .
السؤال العاشر
ما هو الحكم فى استخدام الرقص والطبل والزمر والغناء ( والحركات غير اللائقة فى كثير من حلقات الذكر ) ؟!
تحريف أسماء الله تعالى ؟!
و ( أه ، أه ) أو ( هه ، هه ) ؟!
إصدار الأصوات الساذج بنحو ( ها ) و ( أه ، أه ) أو ( هه ، هه ) ؟!
اشتراط أن يتخيل الذاكر شيخه بين عينيه ؟!
الاعتراف للشيخ بالذنوب والمعايب ؟!
الجواب :
أشرتم إلى أننى – وأستغفر الله – من قادة الفكر الدينى المعاصر ، وأحد المصلحين الصوفيين ، فجزاكم الله عن حسن الظن بحسن الثواب .
وأنا امرؤ أعرف – بحم الله – نفسى فلا أعدو قدرى . ولا أستشرف إلى هذه القيمة المتسامية ، لكننى لا انكر فضل الله على فى أننى شاركت – بكل طاقتى – فيما زعمت لنفسى أنه يرضى الله – من خدمة التصوف خاصة ، والإسلام والوطن عامة ، ولا أزال بحمد الله رغم ما أعانى .
ولابد من تسجيل حادث تاريخى فريد ، مما عانيت فى سبيل الإصلاح الصوفى ( ولا أزال ) ؛ ففى الخمسينات ، عندما ألححت فى المطالبة بالتطوير ، والإصلاح الصوفى ، حتى استجابت الحكومة ، وألفت لجنة للإصلاح الصوفى برياسة محافظ القاهرة ، وكنت مقرر هذه اللجنة بوصفى صاحب الاقتراح ، وخبيراً فى الشئون الصوفية ، ثم شكلت لجنة من بعدها برياسة وزير الأوقاف لنفس الغرض ، وكنت مقررها أيضاً لنفس السبب ( وكان الوزير فضيلة الأخ الأستاذ الشيخ أحمد حسن الباقورى رحمه الله تعالى ) .
من أجل ذلك : اجتمعت الجمعية العامة للطرق الصوفية من اكثر من ستين شيخاً بمسجد الإمام لحسين ، وقررت بالإجماع ( فصلى نهائياً من الطرق الصوفية ) وتجريدى من النسبة إليها !!
وكانت هذه أول مرة فى التاريخ الصوفى الرسمى ، يفصل فيها ( شيخ ) !! حتى رد مجلس الدولة " إلى اعتبارى !؟ وكانت قصة ، إنما هى غصة ، وكفى التلميح إليها لتعرف كيف أحيا ماضياً على شظايا الزجاج المحطم بين ( أعداء ) التصوف ، ( أدعيائه ) وهذا قدرى ، ولا يزال .
ثم كان من فضل الله : أن استمرت الحكومة فى النظر فى هذا الإصلاح على أساس مذكراتى وتقريراتى السالفة ، وغيرها ، حتى صدرت اللائحة الصوفية الأخيرة – بعد ولادة طويلة عسيرة – كخطوة كبيرة ، فى سبيل تطهير التصوف وتطويره وإصلاحه ، وقد سجلت بعض ملاحظاتى عليهاا ، وإن كانت اللائحة فى مجملها شيئاً حسناً فى خدمة تصوف المسلمين – إن أمكن التطبيق الصحيح – رغم ما لى عليها من مآخذ أساسية .
وبعد :
وأولاً : فأما استخدام الراقص ، والطبل ، والزمر ، والغناء – فيما يسمى حلقات الذكر – فليس من دين الله ( قولاً واحداً ) ساء عند أئمة الصوفية ، أو غير الصوفية ، وإنما هو من الدخيل ، والدسيس الذى تسلل إلى التصوف ، فأفسده ، وأساء إليه .
ينقل الشيخ ( ابن الحاج ) فى مدخل ( الشرع الشريف ) :
قلنا : وقد عاب الله نحو ذلك على المشركين من قبل ، فقال : ] وما كان صلاتهم عند البيت ، إلا مكاء وتصدية [ " سورة الأنفال ، الآية : 35 . يعنى تصفيراً وتصفيقاً ! وهما من لوازم الطبل والزمر والرقص !!
إن الرقص ، والطبل ، والزمر ، لاشك هو لهو ولعب ، فإذا اتخذناه ديناً ، كان افتراء على الله ، وهو تعالى يقول : ] وذروا الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً [ ، " الأعراف ، الأية 51 " و ] لعباً ولهواً [ كما فى آيتى ( الأنعام والأعراف ) والله لا يأمر بترك شئ هو قربة إليه . فإذا كرر الأمر كان معنى هذا أنه شئ يغضب له غضباً مضاعفاًُ ، لما فيه من تعد على حدوده تعالى ، وعلى حدوده يقول شاعر الصوفية
يا عصبة ما ضر أمة أحــمد
طار ، ومزمار ، ونغمة شادن وسعى على إفسادها إلا هى
أتكون قط عبادة بملاهى ؟!
وإنما يعبد الله بما شرع وفيما شرع تعالى سعة وكافية ، ومتعة روحية بغير حدود ، والعبادة جد كلها ، وهو تعالى يقول : ] لو أردنا أن نتخذ لهواً ، لاتخذناه من لدنا ، إن كنا فاعلين ، بل نقذف الحق على الباطل فيدمغه ، فإذا هو زاهق [ " سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، الآية : 17 " ،ـ ومن شاء لهواً مباحاً ، فليبتعد به عن العبادة ، وعن التصوف .
ولوجهه الله ، وللحق فى ذاته ورغم ما أصابنا ، ولا يزال – وفى سبيل التجديد والإصلاح الصوفى – نقرر أن مشيخة الطرق الصوفية المعاصرة ، أصدرت عدة منشورات ، تنهى فيها عن هذا العبث ، ولكن هناك أهواء ، وخلفيات ، ومواريث ومصالح ، ونوع من الجهلوت " الجهل المتأصل فى النفس " المستحكم ، والاقتدار ، بل الإصرار على المخالفة كل ذلك يقف دون التنفيذ الواقعى لهذه المنشورات ، حتى كأنها لم تكن ، ولكن لابد لهذا الليل من آخر .
ثايناً : أما الغناء والإنشاد ، فإن كان ملتزماً ، وبشروطه المشروطة شرعاً ، فإن له أصلاً فى السنة الصحيحة ؛ ففى البخارى وغيره أن سيدنا رسول الله y وغيره أن سيدنا رسول الله y كان أصحابه – وهو يشارك فى بناء مسجده الشريف ينشدون :
اللهم لولا أنت ما اهتدينا
فانزلنا ســكينة علينا ولا تصدقنا ولا صلينا
وثبت الأقدام إن لاقينا
إلى آخر ما قالوا بأصوات منغمة طبعاص على لحون العرب !
كما ورد أنه y كان يردد نحو هذه المقاطع على من كان ينشد مع المرديين من الصحابة ، وساء فى بناء المسجد ، أو حفر الخندق أو غيره ، وقد استمع y : " رويدك ، رفقاً بالقوارير "! يريد النساء عن خلف الركب ، منهن من لا يقوين على شدة خطو الإبل المأخوذة بجمال الحداء وحسن الصوت ، ورقة الأداء والتلحين " تواتر أنه y استمع إلى غناء الجوارى ، عند دخوله المدينة كما استمع إلى المأة التى نذرت أن تضرب له الدف وتغنى .
وقد ثبت أنه y كان يستمع لبعض " الأراجيز " فى بعض المناسبات والأراجيز شعر ينسد منغماً بلحن عربى موروث ، فهو ضرب جاد من الغناء العفيف ، فضلاً عما كان يستمعه من الشعر ( بلحون العرب ) وأصواتها بمسجده .
وتأثر النفس الشريفة باللحن والصوت الجميل طبيعة فى الإنسان الكامل ، لا ينكرها رجل سوى قط ، ألا ترى أنه سوف يكون من متع الجنة أن يستمع أهلوها كلام الرحمن عز وجل ، وكيف اختار رسول الله y ( بلالاً ) لأذان ، وكيف كان العرب يضربون المثل بصوت وأداء ( أبى محذورة ) أحد مؤذنى النبى y ، وكيف أنه y أقام منبراً لحسان فى المسجد ينشد الشعر عليه منافحاً .
ولقد استمع y لصوت ابن مسعود ، فقال : " لقد أوتى هذا مزماراً من مزامير آل دوداد " " الحديث بهذا اللفظ رواه الإمام أحمد والنسائى ، وابن ماجه عن أبى هريرة والنسائى عن أم المؤمنين السيدة عائشة رضى الله عنها .
وكان رسول الله y يرتل القرآن ، ترتيلاً يأخذ بمجامع القلوب الصحاة فيتمنون لو أنه طال وبالغ .
وفى الصحيحين حديث : " حسن استماع الله للنبى حسن الصوت بالقرآن " ومن ألفاظه الحديث : " ما أذن لنبى ما اذن لنبى حسن الصوت يتغنى بالقرآن : يجهره " .
ثم ألا ترى أن الله أبعض لصوت الكريه ، فقال تعالى : ] إن أنكر الأصوات لصوت الحمير [ " سورة : لقمان ، الأية : 19 " !! ومن مجموع هذا ، وماا هو منه ( وهو كثير) . يمكن الحكم على الإنشاد الملتزم بالمشروعية على اقل صور الحكام ، إن لم يكن السنية ، أو الندب ، أو الاستحسان ؛ فأن من الإنشاد ما يرتقى بالمرء إلى أسمى معارج الأرواح ، إذا كان رقيق القلب شفيف الروح .
وقد أثر عن بعض كبار شيوخ الأزهر ، قوله : ( من لم تطربه الأوتار ، على شواطئ الأنهار ؛ فى ظلال الأشجار ، وغريد الأطيار ، وجوار الأزهار ، والنسيم المعطار ، ذاكراً فردوس العزيز الغفار : فهو حمار من حمار ... )
ثالثاً : أما تحريف أسماء الله الحسنى فى حلقات الذكر : فإجماع أئمة التصوف على أنه حرام موبق ، وحسبك فيه قوله تعالى : ] ولله الاسماء الحسنى ، فادعوه بها ، وذروا الذين يلحدون فى اسمائه ، سيجزون ما كانوا يعلمون [ " سورة الأعراف ، الآية 180 فهنا أمر بالذكر ، مع نهى شديد عن تحريفه والتحذير عن اصلة بمن يحرفونه ، أى يلحدون فيه ، وإعلان أنهم سيجزون بسوء عملهم ، فيكون هذا الإعلان بمثابة إنذار ، ونهى شديد مكرر ، حتى ندع من يحرفون أسـماءه تعالى ، فكيف بحـكم المحرفين أنفسهم !؟
وهذا الإلحاد يشمل نحو قولهم " ها ، ها " أو " هى ، هى " أو " أه ، أه " وغير ذلك من الأصوات الساذجة الحمقاء ، التى لا تكون أبداً من كرام الناس ، ولا أفاضلهم : لا أسلوباً ، ولا أداء .
لكن المأخوذ عن نفسه ، لا يؤاخذ ؛ لأنه ممن رفع عنه القلم ولهذا وجبت التفرقة الشرعية بين هذا وذاك .
وفى هذا يقول الشيخ الأخضرى فى أرجوزته الصوفية :
أبقوا من اسم الله حرف الهاء
لقد أتوا والله شـــيئاً إداً فألحدوا فى أعظم الأسماء
تخر مــنه الشمخات هدا
ويلحق بهذا نطقهم باسم ( الله ) على غير وضعه الشريف ، من نحو ضم ألفه الأولى أو كسرها ، مع قصر الفم الوسطى ، ومع تخفيف لامه أوتغليطها ، مما يخرجها من منطوقه القرآنى إلى منطوق سوقى محرم ، وخصوصاً مع ما يسمونه ( الدوكة ) أى تغليظ الصوت .
أما قولهم ( هو ، هو ) : فهذا اللفظ ( ضمير الغائب لغة ) وقد ورد فى القرآن الكريم كثيراً من نحو قوله تعالى : ] الله لا اله إلا هو [ " اية الكرسى " وقوله : ] هو الحى لا إله إلا هو [ " سورة غافر ، الأية 65 – فهو الغائب عن النظر ، المشهود بالبصيرة ، وقد أفرد افمام الفخر الرازى فى تفسير الفاتحة بحثاً ضافياً ، أثبت فيه أن لفظ ( هو ) ربما كان اسم الله الأعظم – بنحو عشرين دليلاً ، نحن فى ذلك معه .
فالمسألة فى لفظ ( هو ) على أسوأ الأحوال – خلافية ، ومادام فى الأمر وجهان ودليلان ، فإنه يسعنا ما يسع غيرنا وليس منن العدل تجريم من أختار أحد الوجهين لصحة دليله عنده ، والفروع كلها محل خلاف !!
والقاعدة : " متى دخل الاحتمال ، بطل الاستدلال " .
( جـ ) أما لفظ ( آه ) فلم يثبت علمياً أنه ذكر به إمام الشاذلية ( أبو الحسن ) رضى الله عنه ولا كبار تلاميذه – من أمثال : أبى العباس المرسى ، وابن عطاء الله " والشيخ الحنفى ، ولم يرد له ذكر فى أهم مراجع التاريخ الشاذلى ، كــ " درة الأسرار " و " المفاخر العلية " ، " واللطائف " ، ولكنه منسوب إلى بعض كبار أئمة الشاذلية المتآخرين ، ولهم على مشروعية الذكر بعد أدلة شتى ، لعل من أقواها ، وأحكمها ما كتبه المرحوم الشيخ الظواهرى شيخ الأزهر السابق ، ثم ما كتبه المرحو الشيخ عمران الشاذلى فى عصرنا الحديث .
ثم إن الذاكرين بهذا الاسم يقررون : أن له أثراً عظيماً بالممارسة والتجربة ولاد من مراجعة أدلتهم قبل الحكم لهم أو عليهم .
فهو أيضاً نمط من الخلافات الفرعية . ومن الشاذلية من لا يذكرون به ، ( كالحصافية ، والحامدية ، والمحمدية ) ومن أشد الناس تمسكاً به فروع ( الفاسية الشاذلية ) .
وكان والدى رضى الله عنه لا يستهجنه ، ولا يستحسنه ، ويقول : ( أنا لا آمر بهذا الاسم ، وأنهى عنه ) .
وكان يقول : ( إن عذرى معى فى التوقف فى هذا الاسم بما له ، وما عليه ، وما خلاف عليه خير مما فيه الخلاف ) .
قلنا : ونجن على الأثر ؛ فى نعيب على من يذكر به بدليله ، ولا نلوم من لا يذكر به لدليله .
رابعاً : وفيما يتعلق باشتراط تخيل المريد شيخه عند الذكر بين عينيه : فهم يقولون : إن المراد الأساسى من هذا ، هو استجماع المهمة ، وطرد الشواغل ، وتفريغ القلب لحسن التوجه ، والاستعداد للاستمداد ، فهو وسيلة – مؤقتة – للتجهيز لدخول حضرة الحق ، فإذا ما انحصرت الطاقة فى تصور الشيخ ، والنبى ، وهما يدفعان المريد إلى الله ، ويهيئانه للعمل ، ثم إذا أخذ المريد فى الذكر ، كان أول ما ينطرح على المريد هو الخيال النى ، فلم يبق إلا الله الباقى .
هذا هو أصل الموضوع عندهم .
وتخيل صورة الشيخ ليست شرطاً ، ولكنها من اوسائل الاجتهادية والتجريبية النافلة . ولهذا لم يقل بها كثير من الشيوخ ، اكتفاء بصدق المحبة ، والربطة بين المريد وشيخه ونبيه y ، حتى كأنه بينهما .
وفى هذا الموضوع بحوث نفسية عميقة .
وإذا عرفنا أن هذه الحالة – عندهم – إنما تكون قبيل البدء فى التعبد ، ولمدة لحظات فقط . ثم يكون الذكر الذى يستغرق كل أحاسيس الذاكر .
إن تخيل النبى y والشيخ عند الذكر ، أشبه شئ بما يخطر على بال المصلى من اخيلة الجنة والنار ، والإنس والجن ، وأهوال الحشر ، وعظمة الله ، وهذه صورة لا تبطل الصلاة ، ولا تتهم بالوثنية . فالموقف هنا وهنا واحد ، وبالتالى يكون الحكم واحداً ، فقد انتفت دعوى الوثنية ، التى يرمى بها الصوفية – أو بعضهم – فى هذا المجال ، تهوراً ومجازفة .
خامساً : ثم تأتى قضية اعتراف المريد لشيخه بذنوبه وعيوبه ، فأى حرام فى هذا ؟
إنك عندما تذهب إلى الطبيب تذكر له كل ما تشكوه ، وما يؤلمك .
وهذا الشيخ هو طبيبك الروحى فى الله ، وعقدة الذنب تؤرق صاحبها ، فهو يسأل طبيبه الروحى عما عسى أن يطهره ويغسله من خطاياه ، وينقذه من آلامه ، ووخز الضمير ، وهو ( النفس اللوامة ) فى لغة القرآن والتصوف .
أليس كان ياتى الناس إلى رسول الله y ، فيقول أحدهم مثلاً :
"" هلكت يا رسول الله ، فقد فعلت كذا وكذا " كما حدث مثلاً فى قصة " ماعز " وقصة " الغامدية " واعترفهما بارتكاب الخطيئة لرسول الله y يدل المعترف بخطئه على لو عمل به تقبله الله ، وعفى عنه ؛ فإن من الفطرة ضرورة الإفضاء والاستنصاح " والدين نصيحة " رواه البخارى فى التاريخ عن سيدنا ثوبان رضى الله عنه ، والبزار عن عبد الله بن عمر رضى الله عنه " .
أليس الله يقول ] فاسألوا الذكر " سورة الانبياء ، الاية : 7 " [
ثم أن الآيات القرآنية كلها تدل على أن المؤمنين – بل وغير المؤمنين – كانوا يأتون إلى رسول الله y يسنبئونه ، ويستفتونه ، فى مثل قوله تعال : ] وإذا جاءك الذين يؤمنون بآيتنا ، فقل سلام عليكم .. ] " سورة الانعام ، الآية : 54 .
وقوله تعالى : ] ولو إنهم إذا ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله ... [ " سورة النساء ، الاية : 64 وقوله تعالى : ] فإن جاءوك فاكم بينهم ... [ " سورة المائدة ، الآية : 42 وقوله تعالى : ] يا ايها النبى إذا جاءك المؤمنات يبايعنك .. [ " سورة الممتحنة ، الآية : 12 "
فكلها حث على المجئ إلى أهل الصلاح وطلب النصح منهم ، أو الفتوى ، او التوجيه ، ولا يكون ذلك إلا مع بيان طلب الاستيضاح أو الاستفتاء ، فكان هذا جميعاً من أسباب الإفضاء إلى الشيخ بالنوب أو العيوب ، طلباً للتعرف على ما يرضى الله ، وما يكون سبباً للإنابة والمتاب .
ثم أليس يستشير الرجل من هو اعلم منه ، ليستفيد من تجربته أو خبرته أو سوابقه فى معاناة الأمور ؟
أليس يقض الأخ إلى الاخ بما يؤرقه ويقلقه طالباً نصحه وتوجيهه ؟ وهل اتخاذ الشيخ إلا من اجل تنقية النفس من أوضارها ، وترقيتها فى معارج السالكين ؟
فلست أرى ممنوعاً – شرعاً ، أو وضعاً – ان يطلب المريد نصيحة شيخه فيما واقعه من مثالب وخطايا ، ليدله على وسيلة النجاة ، وفى القرآن ] وأمرهم شورى بينهم [ " سورة الشورى ، الآية : 38 "
وأظن ما قدمته كافياً الآن ، فى هذا المجال
ولا اعتراض بأن : هذا يشبه نوعاً من الكهنوت فى الاعتراف لرجال الدين ( وهى كلمة " كنسية " وإما كلمة الإسلام فهي " علماء الشريعة " وفوق كبير بين هذا وذاك .
فالفارق هائل ضخم ؛ فهناك يعتقدون أن مجرد الاعتراف كاف فى محو الخطيئة ، وأن الاعتراف الذى يقبله الكاهن ، يقبله الكاهن ، يقبله الله حتماً .
أما هنا : فإنما يدل الشيخ مريده على ما به يرضى الله عنه ، من توبة واستغفار أو صدقة ، أو عبادة ، ثم يدع ما وراء ذلك لله وحده ، إن شاء قبل ، وإن شاء لا ، وهذا فارق ما بن الشرك والتوحيد
السؤال الحادى عشر
ما حكم التضرع والتوسل بأصحاب الأضرحة ؟!
وما حكم الاستخدام الشائع لكلمة " مدد " والمدد لله وحده ؟
الجواب
مسألة التوسل إلى الله بما يحب ، وبمن يحب ، مسالة قديمة ، تناولتها طبقات من السلف والحلف ، بين الرفض والقبول ، وكما مال إلى الرفض أمثال الشيخ ابن تيمية ، مال إلى القبول أمثال الحافظ ابن حجر والإمام الشوكانى ، وبخاصة فى كتابه " الدر النضيد " .
والأمام الآلوسى فى ذلك تفصيل مفيد
والإسلام متفق على صحة مبدأ التوسل ، والخلاف كله على اللفظ والكيفية والاتجاه ، والأدلة هنا لا يتسع لها مقال ، وقد سبق أن نشرت لى ( التعاون ) ما يكفى ، وعليك أن تراجع ما كتبناه فى رسالة " الوسيلة " ففيه التفاصيل الكافية .
والمهم فى هذه المسألة المتشعبة الجوانب ، الفسيحة الرحاب أن يوجه الطلب إلى الله وحده ، ون يكون ذكر المتوسل به – لمن شاء التوسل – نوعاً من تأكيد الطلب ، بالاعتراف بالتقصير والتفريط فى جنب الله ، مما يخجل معه المتوسل أن يكتفى بدعائه ، وهو ليس أهلاً للاستجابة ، فيستشفع إلى الله بما ( أو بمن ) يغلب على ظنه أنه مقبول عنده فى رجاء إلا يرد أو يرفض .
وما دام الطلب إلى الله ، وإلى الله ، ابتداء وانتهاء ، كقول القائل :
" اللهم إنى أسألك كذا وكذا ، متوسلاً إليك بكذا " فلا خطأ ، ولا شرك على الإطلاق ، وقد ذهب إلى هذا المرحوم الإمام حسن البنا ، واعتبرها من الخلافات الفرعية .
وليس التوسل واجباً ، وإنما هو اختيار لمن شاء ، على ألا يكون الطلب موجهاً إلى العباد ، سواء أحياؤهم أم أمواتهم ، فإذا أخطأ الجاهل – مع هذا – وطلب من العبد ، فإنه يعلم ويرد إلى الصواب ، ويكفيه نيته وحسن اعتقاده ، وعلمه اليقينى – مهما كان أميا جاهلاً – بأن الله هو الفعال ، وإنما العبد وسيلة ، لا يملك مع الله شيئاً .
وإذن فلا نخرجه من الإسلام بجرة قلم ، أو انفعال لسان ؛ فإن هذا أمر خطير ، لا يملكه أحد ، وإن كان قد شاع تكفير الناس فى أيامنا هذه بما لا يقبله عقل ولا دين .
أما الأدلة فتشى ، لا يحتملها مقال ، ولا عشر مقالات ، ولكنى أفضل – كما قلت – أن تقرا بحثاً كنت كتبته فى هذا الباب ، وطبعته " مجلة مسلم " فى رسالة خاصة هى رسالة ( قضايا الوسيلة والقبور ) ، وتحقير أهل البيت النبوى ، وأولياء الله ، من أقرب وسائل الثراء المربح ، وسرعة التعاقد على العمل المأمول فى بلاد البترول ! وأيسر وسائل الشهرة ، وبناء العمارات ، وركوب الطائرات ، وحيازة السيارات ...... فافهم .... !
أما قولهم "مدد " : فإن نعمة الإيجاد والإمداد كلتاهما لا تكونان إلا لله ، ومن الله عز وجل ، فالحياة الأولى والآخرة جميعاً ، ومحتوى الملك ، والملكوت كله ، إنما هو من إيجاده ، وإمداده تعالى . وهو يقول : ] كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك [ " سورة الإسراء ، الآية : 20 " وهى أية كاملة شاملة ، ومؤادها فى معنى : ] قل كل من عند الله [ سورة النساء ، الآية : 78 .
والعبد سبيل أو سبب ، ولكل شئ سبيل وسبب .
فطالب المدد : إن كان يطلبه من شيخ حى ، فهو إنما يريد بالمدد :
طلب العلم ، أو الإرشاد ، أو الدعاء ، قلبياً كان أو نفسياً ، أو تلقى السيالات ، والتيارات الروحية من طاقات الشيخ المشحون بأسرار الإيمان ، وقوى التعبد ، والعلاقة بالله .
ولكل مخلوق ميالات وتيارات كهربية ومغناطيسية مؤثرة ، أثبتها العلم القديم والجديد ، واستدل بما فى الإنسان من الشجاعة والمروءة ، والهمة ، ونحوها ، فكلها قوى خفية ، سميناها بالأسماء ، ووصفناها بالأخلاق ، ثم قررها علم النفس الحديث ، واتخذ من " الحسد " دليلاً على القوى الشريرة فى الإنسان ، وهذا يثبت إن للإنسان – بالمقابلة دليلاً قوى خيرة ، تؤثر فى الغير بمثل ما تؤثر قوى الشر من الحسد فى المحسود ، فكل شئ له مقابل ، هو ضده ، ثم إن التنويم المغناطيسى فى أسلوبه العلمى المعترف به فى كل جامعات العالم ، وكل المحاكم العالمية هو دليل فى هذا الجانب غير مدفوع " راجع كتاب " سبيل السعادة " للمرحوم يوسف الدجوى ، وكتاب " على أطلال المذهب المادى " للمرحوم محمد فريد وجدى ، وقد قرر الشيخ ابن القيم فى كتابه " الروح " كثيراًَ من القوى والطاقات الإنسانية فى الإحياء والموتى ، فارجع إليه .
وهذا ، وإن كان يطلب المدد من شيخ متوفى ، فهو يطلب من روحه " التى يعتقد أنها تحيا برزخيا ، فى مقام القرب من الحق " أن تتوجه شفاعة إلى الله فى شأنه بما يهمه ؛ فالأرواح فى عالمها تحيا حياة غير مقيدة بحدود زمان أو مكان ، فالقيود والحدود نتيجة الحياة البشرية ، وأما الأرواح ، فهى من عالم الانطلاق ، ولاشك أن هذا الجانب كله مزلق من اخطر المزالق ، ولا يقوى على فهمه وضبطه إلا أولوا الألباب ، ومن ثم وجب تبصير الناس ، أو سد الذرائع .
وليس معنى هذا أنن أجيز الحالات الهستيرية التى نشاهدها فى كثير من التجمعات المنسوبة إلى التصوف ، وإنما أردت أن أبين علة الموضوع وإسناده إلى أهل العلم . ولكل حق باطل يشبهه ، وما يستوى الأعمى والبصير ، ولا الظلمات ولا النور .
أما ما يحيط بالموالد من منكرات جعلتها مجالاً خصباً للمرتزقة والنصابين ، فقد قررنا أن الموالد بوضعها الحالى فيها الشروع والممنوع ، وقد أصبح الممنوع فيها غالباً على المشروع للأسف الشديد ، فمثلاً : قراءة القرآن ، ومجالس العبادة ، وحلق العلم ، وانتشار الصدقات ، وما يكون بين الناس من التعارف ، والتآلف ، والتعاطف ، ورواج الحكة التجارية ، والتلاقى على الله بحسن النية وصفاء القلب ، وفقره الاجتماعى المحبب شرعاً وطبعاً ، كل ذلك " حركة فيها بركة " لا ينكرها عقل ، ولا دين ، والإسلام دين التجميع والتكتيل ، ومعنا جماعات الصلوات ، والجمع ،والعيدين ، فضلاً عن اعتبار الموالد نوعاً من الفرح بفضل الله ورحمته ، فبذلك فليفرحوا .
ولكن بجوار هذا شر موبق : عبادة محرفة ، وتجمعات منكرة ، ولصوصية أراض ، ولصوصية أموال ، ومراتع فسوق ، وبؤرات ميسر ، ومستنقعات تخريف ، وتحريف ، وشعوذة ، وتفاخر ، وتكاثر بالاتباع والأموال ، والمظاهر . وضياع أى ضياع للأموال والأوقات والأخلاق والطاعات !!
إن هذه الموالد يمكن أن تصبح أسواقاً للثقافة الربانية . ومنابر للدعوة الوطنية والإسلامية ، ومناسبات للخير العام والخاص ، لا يمكن أن تضارعها فه أى تجمعات مصنوعة ، مهما استقطبت من المغريات ، وليس هذا فى يد أحد سوى الحكومة أولاً ، فيما لها من الإشراف عليه ، ثم فى يد مشيخة الطرق الصوفية ، فيما لها من الإشراف عليه إذا صح العزم، وصح الحزم ، على التغيير ن وطرحت المجاملات ، وصدقت المواجهات .
أما والحال على هذا المنوال ، فخسارة ووبال . وليس بعد الحق إلا الضلال .
أن الكلام عن الموالد فى جوانبها المختلفة تاريخياً وشرعياً ، كلام طويل ، وتستطيع أن ترجعه إلى بعضه فى بعض نشرات العشيرة ومجلتها ، وفما قدمناه هنا آنفاً كافية .
السؤال الثانى عشر
ما حكم المواكب الصوفية ؟
وما يكون فيها من الرقص ؟ والدفوف ؟ والصاجات ؟ والأعلام ؟ والأزياء الشاذة ؟ والأوشحة ؟ والعمائم الملونة ؟
الجواب :
أما الطبل . والزمر . والرقص . وما يليه من الدفوف والصاجات ، فقد أوضحنا – فيما قدمنا – حكم تحريمه باتفاق كعبادة ؛ فهو لهو وباطل ، وعبث ليس من الدين ، ولا هو شأن الرجال " راجع ما قررناه آنفاً "
أما نفس المواكب : فقد كان أول موكب انعقد فى الإسلام يوم إذن الله بإعلان هذا الدين الخاتم ، فخرج المسلمون فى صفين على رأس أحدهما : عمر بن الخطاب ، وعلى رأس الآخر : حمزة بن عبد المطلب . وأخترق هذا الموكب شعاع مكة وثنياتها ، يعلن بالتهليل والتكبير .
ثم جاءت مواكب المجموعات فى المدينة تعلن بالتكبير ليالى الأعياد والجماعات ، التى تعلن بالتلبية فى الحج . ثم جاءت السرايا والبعوث ، تأخذ وجهتها فى الدعوة إلى الله ، كلما علوا شرفاً ، أو هبطوا سهلاً ، هللوا وكبروا ، فكان هذا جميعاً أصل " المسيرات " والمواكب الصوفية السليمة .
أما الأعلام : فقد وجدت فى مسيرات الجيوش فى الصدر الأول ، حتى إذا غزا لويس التاسع دياط ، ودع الإمام الصوفى العظيم " الشيخ أبو الحسن الشاذلى " الناس فى الجهاد ، بعد أن كف بصره . ودقت طبول الحرب بين يديه ، وسار إلى موكبه أئمة الدين فى عصره ، ومنهم سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام ، وإمام المحدثين الشيخ زكى الدين المنذرى " صاحب الترغيب والترهيب " ، ومكين الدين ، وابن دقيق العيد ، ورجاله من الصعيد إمام علماء الصول ، وغيرهم من الخاصة ، فضلاً عن الجماهير الهائلة .
وكان قد آثار خروج أبى الحسن ( وهو مكفوف ) حماس الناس وغيرتهم ، فتابعه الآلاف يخرجون إلى كفاح الفرنسيس بأموالهم وأنفسهم ، وقد اتخذت كل بلدة أو اسرة راية لها ، تعرف بها ، ويتجمع تحتها رجالها ، حتى إذا نصر الله المسلمين ، وأسر " لويس ورجاله " ، وحبس فى دار ابن لقمان ( الصوفى ) بالمنصورة " لا زالت دار ابن لقمان موجودة فى المنصورة ، وقد حولت إلى متحف معروف " .
ثم ورث بعض المتصوفة هذه الأعلام من أسرهم ، وأقاربهم ، وبلادهم ، وإتخذها شعاراً . وحولها من حقيقة إلى تمثيل ، وفلسوفها ، فأدخلوا إشارة فى مجال مجاهدة النفوس ، ولست أرى هذا الرأى ولا آسيغه ، وخصوصاً بعد هبوط مستواه إلى ما ترى فى المدن والقرى ومن الناس .
أما الأزياء الشاذة : فمدسوسة على أهل الله . ولم يعرف ولى الله كان له زى غير مألوف : فهى أثواب شهرة . " ومن لبس ثوب شهرة شهر الله به " . كما جاء فى الحديث الشريف " وفى حديث آخر { من لبس ثوب شهرة ألسه الله يوم القيامة ثوباً مثله ، ثم يلهب فيه النار } رواه أبو داود ، وابن ماجه عن عبد الله بن عمر رضى الله عنه .
وأذاع الشياطين أن رسول الله y قد قتل ، تخذيلاً لجماعة المسلمين ، فلبس رسول الله y لفتاً للأنظار ، وتكذيباً لدعوى المشركين ، وإذن فقد لبسها لسبب معين ، فى وقت معين . كما قرره أهل العلم . ثم لبسها ( الشيعية ) حزناً على استشهاد الحسين . كما لبسها العباسيون لأمر ما .
أما القول بان : الصفراء كانت علامة الملائكة يوم بدر ، فلا دليل من العلم فيه .
وأكثر ما روى عن رسول الله y : إنما عمامته بيضاء كالغمامة ، وكل ما جاء فى ألوان العمائم ، فحديث واه شديد الضعف ، أو حديث موضوع ، وكلاهما لا يؤخذ به . وخصوصاً من الصوفية : فإنهم يجعلون خلاف الأولى ، فى رتبة الحرام .
غير أنه ثبت أن الصحابى الجليل ( أبا داجانة ) كانت به عصابة حمراء ، سماها ( عصابة الموت ) كان يلبسها إذا غامر فى صفوف الأعداء . فسئل فقال : حتى يعرفنى بها المسلمون ، إذا شرفنى الله بالشهادة ، فقد لبسها لسبب غير الشهرة والترفع والزهو على خلق الله ، وقد كره رسول الله y الثوب الأحمر غير المخطط .
أما العمامة الخضراء فقد احدثها السلطان ( شعبان بن حسين بن محمد بن قلاوون ) أيام حكم المماليك . وخص بها آل البيت لبعض الأسباب ، كما نقله العدوى فى ( مشارق الأنوار ) ، والشبلنجى فى ( نور الأبصار ) ، على ان للعلماء فيها رآياً مضاداً .
فإذا لبس الناس عمائمهم الملونة على أنها " عادة " فلعله لا يكون بها بأس .
أما إذا لبوسها تعبدأ ، أو تمذهباً ، فلن يكون معهم كتاب ولا سنة ثابتة ؛ لأنها أما أن تكون تعصباً للمذهب والنبى y يقول : " ليس منا من دعا إلى عصبية " " ومن نصوص الحديث : قوله y : " ليس من من دعا إلى عصبية ، وليس من مات على عصبية " . رواه أبو داود .
وإما أن تكون تزكية للنفس ، وإعلاناً عن الشرف : والله يقول : ] لا تزكوا أنفسكم [ وإما أن تكون تعبداً . وإنما يعبد الله بما شرع
وإما أن تكون تبركاً ، ولا تكون البركة إلا فيما أذن فيه الله ورسوله : ] ومن احسن من الله حكماً لقوم يوقنون [ فليكن إذن لبسها على سبيل العادة ، خروجاً من الحرج ، لمن يشاء ، إذا ضمن ألا يجره لبسها إلى الرياء والتعالى والسمعة وغضب الله ورسوله .
السؤال الثالث عشر
ما حكم الاعتقاد فى قدرة بعض الاشياخ على الاطلاع على الغيب ؟
وقد نفى القرآن عن الرسول y نفسه علمه بالغيب ؟
الجواب :
هذا الباب مما لاينبغى فيه التعميم المبهم ، فأن الغيب نوعان :
غيب حقيقى .
وغيب مجازى .
فالغيب الحقيقى : ما كان فى كنون العلم الإلهى ، لا يحيط به إلا الله وحده
أما الغيب المجازى : فما قد كشف الله عنه لمن شاء من خلقه ، فهو العلم الذى تنزل به الملائكة والروح بإذن ربهم من كل أمر ، وبخاصة حين – يفرق – فى ليلة القدر - كل أمر حكيم – ( ومن معانى الفرق : الكشف ، والإظهار ، والبيان ) .
ومما يدخل فى الغيب المجازى : ما يكون فى الأحداث الكونية التى تقع فى منطقة ما ، فيراها من هم حولها ن ولا يراها ولا يعرفها الآخرون .
فالغيب الحقيقى : لله وحده ] وعند مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو [ " سورة : الانعام ، الآية : 59 " .
وقد يتفضل الله على بعض رسله فيحيطهم علماً بما يشاء من علمه ؛ تأييداً لهم ، وتعجيزاً لخصمهم ] عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحد ، إلا من ارتضى من رسول [ " سورة الجن ، الاية : 27 " ، كما كان عيسى y ينبئ الناس بما يأكلون وما يدخرون فى بيوتهم " راجع الآية رقم 49 من سورة : آل عمران .
وكما حدثنا رسول الله y - فى أعلام نبوته – عن وقائع واحداث جاءت فى حياته وبعد مماته ، كما حدث بها بكل تحديد .
وهناك نفر من أهل الله – ولله آهلون من عباده ، كما صح فى الحديث الكريم " الذى رواه الائمة : أحمد والنسائى ، وابن ماجه ، والحاكم عن سيدنا أنس رضى الله عنه " إن لله آهلين من الناس " : قالوا : من هم يا رسول الله ؟ قال : آهل القرآن هم أهل الله وخاصته " .
ومعنى كل هذا : أن الله تعالى يتعطف على بعض الخواص من عباده بما يشاء من بحر علمه ، فلا أحد يستطيع أن يحيط بشئ من علمه إلا إن يشاء الله ! وهو قوله تعالى – على لسان نبيه y : ] ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير ، وما مسنى السوء [ " سورة الأعراف ، الآية : 188 . أى فلا أعلم إلا ما علمنى ربى ، وما كشف عنه لى ، ومن هذا الوجه أيضاَ قول تعالى : ] وعلمناه من لدناً علماً ) وقوله على لسان يوسف y فى تأويله الرؤيا ] ذلكما مما علمنى ربى [ " سورة يوسف y ، الآية 37 " ، وقوله تعالى : ] وعلمك ما لم تكن تعلم [ " سورة النساء ، الآية : 113 . ..... الخ .
كل هذا فى الغيب الحقيقى .
أما المجازى : وهو ما خرج من نطاق المكنون الربانى ، فلا يتمنع أن تكون هناك وسائل للإحاطة به .
وقد فصل الإمام الآلوسى هذا الجانب تفصيلاً مفيداً حاسماً .
وقد يكون من هذه الوسائل : صفاء النفوس بطول ملازمة العبادة والاستغراق ، وعدم الانشغال بغير الله – شأن أولياء الله الصالحين .
وقد يكون من هذه الوسائل ما هو آلى فلسفى ، كالذى نراه فى فقراء الهنود .
وقد يكون من هذه الوسائل استخدام الشياطين ، كما جاء فى الصحيح : " إن الشياطين يذهبون فى العنان فيخطفون الكلمة من الملك ، فيقرونها فى آذان الكهان ، فيكذبون معها مائة كذبة " وروى البخارى أن الملائكة تنزل فى العنان – وهو السحاب – فتذكر الأمر قضى فى السماء – فيسترق الشيطان السمع فيسمعه ، فيوجهه إلى الكهان ، فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم " راجع الزواجر لابن حجر " .
وقد يكون من هذه الوسائل تطوع بعض صالحى الجن ، بما لا بأس به مع بعض الصالحين من الإنس . وقد يكون بأسباب أخرى كثيرة جداً – فالأمر متشابه متشعب دقيق ، لا تحكمه العواطف المنفعلة .
وبين أيدينا من التجارب الواقعية ما يغطى كل هذه الأنواع وغيرها ، مما لم نشر إليه ، وهو كثير .
وهذه الأصول كلها يجب أن يستنبطها من يتصدى للحكم على الغيب ؛ فإن فتنة تعميم الأحكام ، والتهويل والإيهام ، كثيراً ما تخرج بطرفى القضية عن المنهج العلمى ، او العلم المنهجى ، فلا يتحقق إنصاف ، ولا ينصف تحقيق .
السؤال الرابع
ادعاء العصمة للأشياخ ؟
الجواب :
العصمة للأنبياء وحدهم ، أما غيرهم ، فلو صحت لهم العصمة لكانوا أنبياء ، ولا نبوة بعد سيدنا المصطفى y ، ولم يقل بالعصمة لبشر بعد النبى إلا فى ( الشيعة ) الذين أعطوا ائمتهم هذا الحق بأدلة قبلوها هم ، وليس فى الصوفية الراشدين من يقول هذا القول فى شيخ له ، " ولاعبرة بالمتصوفة ولا المستصوفة " .
لكنهم نقلوا عن أبى الحسن الشاذلى قوله : " إن الله يتفضل على وليه " بالحفظ " كما يتفضل على " نبيه " والفرق بين الحفظ والعصمة ، فسيح الأبعاد .
وحسبك أن العصمة هبة ومنحة ، والحفظ كسب وأثر للاجتهاد والاحتياط والورع ] فالله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين [ . وقد قررنا أن المتطرفين والغلاة موجودون فى كل مذهب ودين ، وبغيهم على أنفسهم ، لا على المذهب ، ولا على الدين .
كما قررنا أن الغلاة وجدوا فى عهد رسول الله y ، فردهم وأمرهم بالتشبه به .
السؤال الخامس
(س) ما حكم توارث المشيخة فى أبناء الأسرة الواحدة ؟
الجواب :
إذا وجد فى الأسرة من هو أهل لحمل عبء الدعوة ، فلا شك أن أحق وأولى من كل الوجوه ، وفى القرآن أن الله فضل آل إبراهيم وآل عمران على العالمين ] ذرية بعضها من بعض [ " سورة آل عمران ، الآية : 34 " ومن ثم كان سيدنا إبراهيم أباً لجميع الانبياء ، أى أن الانبياء جميعاً كانوا من آسرة واحدة ، فلا اعتراض من جهة الشرع أو العقل على ذلك ، مادام يحمل الأمانة من هو أهل لها ، وقد ورث سليمان داود ، واستورث موسى آخاه هارون ، ودعا ذكريا ريه : ] هب لى من لدنك ولياً . يرثنى ويرث من يعقوب [ " سورة مريم ( عليها السلام ) ، الآية : 5 ، 6 .
وفى الصحيح يقول y : " من كنت مولاه فعلى مولاه " رواه الإمامان : أحمد ، وابن ماجه .
] والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض [
أما إذا فقط شرط الصلاحية والكفاية ، كان ذلك إقطاعاً بشراياً ، ولا يعرفه دين الله ، ولا يقبله نظام الانضباط الاجتماعى : ] فإذا نفخ فى الصور فلا انساب بينهم يومئذ ، ولا يتساءلون [ ثم نذكر هنا نوحاً وابنه ، وفرعون وامرأته .
السؤال السادس عشر
(س) تعيين ولى الله بالاسم ؟ مع أن الولاية سر بين العبد وربه ؟
الجواب :
سبق أن قررنا أن للولاية مواصفات ، وعلامات ، فمن تحققت فيه هذه العلامات ، فهو ولى الله ، بالنص القرآنى ] ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، الذين آمنوا وكانوا يتقون [ " سورة الأعراف ، الآية : 196 .
وفى الاية ] وهو يتولى الصالحين [ " سورة الأعراف ، الآية 196 " .
فإذا تحصلت الولاية – وللإيمان والتقوى والصلاحية وإشارات وعلائم ، ولها روائح وملامح معروفة بين الناس . فإذا ما تحققت – أطلق الله ألسنة خلقه بحسن الذكر ، وطيب السمعة ، وإفاضة البركة ، وفى الحديث المشهور : " إن الله اذا أحب عبداً نادى جبريل إنى أحب فلاناً فأحبه ، ثم يكتب له القبول فى الأرض والسماء " " رواه البخارى ومسلم ، عن أبى هريرة رضى الله عنه ورواه الترمذى عنه أيضاً " . ، فالولاية وظيفة إلهية فى الأصل ، فإذا تسنى أن يعرف الناس صاحبها ، واطلقوا عليه بمقتضى وظيفته ، فلا أظن أن بذلك بأساً ، على أن من أولياء الله من هو مستور مغمور ، على قدم العبد الصالح صاحب موسى عند مجمع البحرين ، والعبد الصالح أويس القرنى ؛ فأولياء الله نماذج للإنسانية الكاملة ؛ لأنهم الممثلون الشخصيون للحضرة النبوية فيما ندبهم الله إليه .
ويجب أن يكون مفهوماً : أن الولاية شئ ، والبلاهة شئ آخر
فمن شروط الولاية : تمام العقل ، الفقه بدين الله .
أما الأبله : فلا نعتقده ولا ننتقده .
أما إطلاق الولى على من ميز نفسه بملبس خاص ، ووضع خاص ، وأسلوب حياة خاصة ، ولم يتحقق فيه أوصاف الايات : فطوى الناس تحت لواء الشعوذة والتهريج ، والدعوى ، واختلاق الكرامات ، والخوارق ، فذلك ولى الشيطان وحزيه ، فلا يفلح حيث أتى ، وإن اجتمع عليه الثقلان ، فإنما هو حينئذ من طلائع المسيخ الدجال ، وكثير ما هم ، وكثير أتباعهم .
ثم تأمل : هل أحد أكثر اتباعاً من ابليس ؟
فكثرة الاتباع لا تدل على حقيقة الولاية ، بل قد تكون نوعاً من الفتنة والابتلاء الالهى .
السؤال السابع عشر
(س) ما هو القول فى شفاعة الأولياء لاتباعهم ؟ وحضورهم عند سؤالهم ؟
الجواب :
شفاعة المؤمنين بعضهم لبعض يوم القيامة آمر لا خلاف عليه بين المسلمين ، وإذا ثبت لمجرد الإخوة فى الإسلام ، فلعلها تكون أثبت إذا اجتمع مع الأخوة فى الإسلام أخوة أخص منها فى الله ، فلا يستبعد أبداً أن يشفع مؤمن فى مؤمن باذن الله ] من ذا الذى يشفع عنده إلا بأذنه [ " آية الكرسى " .
لكن من غير المقبول أن يشيع بين بعض الطوائف أن شيخهم يحضرهم عند السؤال فى القبر ، وقد دسوا مثل هذا الهراء فى تاريخ ( أبى الحسن الشاذلى ) وهو منه براء ، كما دسوه فى تاريخ بعض ائمة الصوفية الآخرين ، وهو مخالف للعقل ، والتاريخ الصحيح ، والنقل جميعاً .
ولقد كان رسول الله y أولى بذلك مع أصحابه .
سألت أحدهم : لو أن عشرة مثلاً من أتباع الشيخ فى عدة بلاد أو دول متباعدة ، أو حتى فى بلدة واحدة ، وقد ماتوا جميعاً فى وقت واحد ، وهم يسألون فى وقت واحد ، فمع من يكون الشيخ يا ترى ؟
أم أن الملائكة تنتظر حضور الشيخ حتى يفرغ من وجوده مع الآخرين ؟؟ ( فعبس ويسر . ثم أدبر واستكبر ) .
ثم ما هو الدليل من كتاب الله وسنة مصطفاه y ؟
لا دليل . ولا استئناس ، ولا نظر ، ولا استصحاب بالمرة .
وإن من علمائنا من يرى فى تصديق ذلك مزلقاً إلى الوثنية .
ولعل من أشد ما يتألم له المرء أن يأخذ بعض الصالحين هذه القضايا الدخيلة على التصوف بحسن النية ، ويرددوها على أنها حقائق ، لأنها وجدت مطبوعة فى بعض الكتب ، وقد دسها من دسها على الشيوخ بلؤم وخبث نية .
إن بعض الكتب المطبوع تقول : ( إن الله ثالث ثلاثة ) فهل نأخذ بهذا الشرك ، لأنه مطبوع فى كتاب ؟؟؟!
فاعتبروا ياأولى الألباب .
السؤال الثامن عشر
(س) لماذا الاهتمام بصناديق النذور بحيث يندر أن نجد ضريحاً كبيراً ليس به صندوق نذور ؟
الجواب :
النذر فى ذاته مشروع ، وإن كان لا يرد قضاء
فالله يقول ] وليوفوا نذورهم [ ومدح قوماً فقال : ] يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيراً [ " سورة الإنسان ، الآية : 7 ، ويقول ] وما أنفقتم من شئ فهو يخلفه [ " سورة سبأ ، الآية : 39 ، وقال y : " من نذر ان يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصه " رواه الإمام أحمد والبخارى والأربعة وأبو داود ، والنسائى وابن ماجه .
والنذر أصلاً لله ( ومن نذر لغير الله فقد أشرك ) يعنى عمل عمل أهل الشرك ، وإن لم يخرج من الملة ، فإذا اتضح هذا التأصيل ، كان لا بأس بأن تجمع النذور بطريقة واعية ، لتصرف على أهلها ، وعلى وجوه الخير ، التى تعود على المسلمين بالأهدى والأجدى ، وتود على من كان سبباً فيها وعلى فاعلها بالاجر والمثوبة .
(س) لكل هل أسلوب جمع النذور وتحصيلها ، وصرفها الآن يتناسق مع المقصود منها ؟
الجواب :
هذا تسأل عنه الدولة ، فلوائح صناديق البذور تكاد تحصر حصيلتها فى كبار موظفى المساجد ، وأعضاء لجان الحصر ، إلا ما عسى أن يزيد من مقررات أولئك جميعاً ، فهو يعود إلى وزارة الاوقاف ، وليس كذلك مراد الناذر ، ولامراد الشارع ، ولامراد رجل الشارع ، بل يتعين وضع النذر فى موضعه الصحيح .
وعندما يكون الناذر جاهلاً ، فيقول مثلاً : هذا النذر للسيد البدوى ، او السيدة زينب ، أو غيرهما ، فعلينا أن نعلمه أن يقول : " النذر لله ، وثوابه البدوى أو السيدة زينب ، أو نحو ذلك ، ولا نرميه بكفر ولا شرك ؛ فمراده صحيح ، وتعبيره خطأ .
ولنتذكر أن سيدنا ( سعدا ) رضى الله عنه عندما حفر بئره المعروفة ، قال ( هذه لأم سعد ) ولم ينكر عليه رسول الله y ولا الصحابة ؛ لصحة قصده .
وانتظام هذا التعبير مع علوم اللغة العربية سليم ، فهو فى اللغة على حذف مضاف تقديره( هذه لرب أم سعد ) ، فالقائل ( هذا للسيد البدوى ) أو للسيدة ، أو للحسين – يريد أنه ( نزر لرب السيد ، أو السيدة أو الحسين ) وإن لم ينطق بلسانه ،كما حدث تماماً من سعد بن أبى وقاص ، وإنما الأعمال بالنيات ، لا بالكلمات .
كلمة اخيرة : لقد اتعبتنى يا كمال يا ولدى ( الاستاذ / كمال فرغلى – الصحافى المعروف بجريدة التعاون ) – وطوفت بى هنا وهناك ، وقد طاوعتك رجاء تصحيح بعض المفاهيم لوجه لله . وقد أجبت ( بغاية الاختصار ) على ما سألت من أسئلة ، بعضها يحتاج إلى سعة كبرى فى الوقت والبيان ، والدليل والتعليل ، وقد أكون مصيباً أو مخطئاً فى حكم أو فى أحكام وما أبرئ نفسى ، ولا أزكى على الله أحداً ، وهذا شأن البشرية ] ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً [ " سورة النساء ، الآية : 82 " – وأنا اسجل رأيى ، ولا أحمل أحداً عليه ، كما لا اقبل أن يحملنى احد على رأيه ؛ فهذه فروع اجتهادية ، تختلف فها الأنظار والأفكار . وستبقى كذلك إلى يوم القيامة ، وليس على الأرض من يسجل قولاً وهو يظن أن يدخل النار به
فأسأل الله أن يجعل لى ما كسبت صواباً ، وأن يغفر لى ما اكتسبت من خطأ هو قطعاً غير مقصود ، وهو الغفور والودود .
وبهذا أكون قد أجبت على أهم ما سألت ، مما ينفع الناس ويمكث فى الأرض إن شاء الله ، ومنه يظهر بكل الوضوح : أنه ليس هناك خلاف بين الصوفية وبين غيرهم من أهل السنة ، إلا فى بعض صور الفهم ، وتحليل المضامين التى جعلت الصوفة يهتمون بالقلوب والتربية والأخلاق ، والاعتصام بمقامات التسامى والربانية ، فالتصوف مذهب إسلامى أصيل ، من مذاهب أهل السنة التى لابد منها للحياة الصحيحة .
وإذا كان الصوفية يدعون إلى الإخلاق وبناء داخل الانسان بعد أن تهدم وتحطم ، فهم إنما يعملون غابة ما يجب على الإنسان لاستعمار الرض والاستخلاف عليها ، وتنقية الحضارة من أوزارها وأوضارها ، واستقرار الأمة بأفرادها على ما لو يكن لهلكت ، وها نحن قد جربنا ، وضرب الامثال ، وليس بعد الحق إلا الضلال ، ونستغفر الله ، ونتوب إليه .
الباب الثانى
أسئلة جريدة الأهرام
سألها الكاتب الإسلامى المعروف
الأستاذ " سامى دياب " قال
السؤال الأول
يقولون : إن التصوف استقى نظرياته فى الحلول ، والاتحاد ، والوحدة ، وحكمة الإشراق ، وكل هذا من مبادئ الشيعة الرافضة ، والإسماعيلية ، ومصادر أخرى اجنبية ، كالعقيدة الفارسية ، والمذاهب الهندية والنصرانية ، فابتعد التصوف بذلك عن تعاليم الإسلام :
الجواب :
للناس أن يقولون ما يشاءون ، مادام لا يربطهم علم منصف ، ولا خلق عاصم ، ومن البديهيات ، ان التصوف الإسلامى فى ذاته شئ ، وما اندس فيه أود أدخل عليه شئ آخر ، والحكم على الشئ بما اندس فيه : حكم على المدسوس ، لا على الشئ نفسه ، وما أضر العلم إلا أساليب التعميم والتهويل ، والعصبية للرأى بلا تحفظ أو احتياط .
أن التصوف الإسلامى هو : روح الكتاب والسنة ، قولاً وحداً . أقر به كافة أئمة الصوفية ، من السلف والخلف ، وأقر به المنصفون من الأجانب ، الذين تحدثوا عن التصوف ، وقد عرفوا التصوف بعشرات التعريفات ، التى تدور كلها فى هذا المجال ، باختلاف منازل الرجال ومواقف السلوك ، فإذا اندس من قبل فى كتب الفقه ، والتوحيد ، والسيرة النبوية ، بل فى كتبه الحديث الشريف ، والتفسير ، مالا قبل لهذه العلوم به ، ولكن الله ندب من أهل العلم من ميزوا الخبيث من الطيب ، فلم يترك الناس الفقه ، ولا التوحيد ، ولا التفسير ، ولا السيرة ، من أجل الدخيل ، أو الدسيس فما أخذ علماء هذه المواد بما مزجه الوضاعون فى علومهم ، ولا تتركوا سنة الحبيب y من آجل آلاف الموضوعات والأكاذيب التى تسربت إليها .
وكذلك بقية علوم الدين
لقد حاولوا أن يدسوا على كتاب الله ما ليس منه ، والنبى حى ، والوحى ينزل ، وما قصة الغرانيق بمجهولة عند طلبة علوم الدين ( على ما قيل فى سندها أو تاويلها ) .
وهكذا يكون من العجيب ، أن يحاسبوا الصوفية على جريمة غيرهم ، أن يؤخذوا بخطأ لم يرتكبوه ، بل هم قد نبهوا عليه ، وحذروا منه ، وراجع أن شئت ما كتبه ( ابن الحاج ) وهو من خاصة الصوفية فى كتابه ( مدخل الشرع الشريف ) وراجع بإمعان شرح الإمام اسلفى المعروف ( الشيخ ابن القيم الجوزى ) على كتابه إمام الصوفية الكبير ( الشيخ الهروى ) رضى الله عنهم جيعاً ، ثم ما كتبه الإمام " الأخضرى " فى أرجوزته الصوفية الكبيرة من متأخرى الصوفية ، وما كتبه أخيراً الشيخ حسنين الحصافى ، ومن قبله الشيخ أبو عليان الشاذلى ، ثم المرحوم الشيخ محمود خطاب السبكى مؤسس الجمعية الشرعية ، وهو من كبار أقطاب الصوفية باعترافه المكرر فى كتبه ، وبطريقته المفصلة فى رسالته المسماه " العهد الوثيق " وإن كره الكارهون .
ثم ما كتبه الشيخ ( حسن البنا ) الذى مزج دعوته بالتصوف الراشد مزجاً كان السبب الول فى نجاحها وانتشارها ، ومن قبل هؤلاء كتب " محمد عبده " خير ما يكتب عن التصوف المستنير ، شأن كل منصف يريد وجه الله .
ولا يقبل الاحتجاج بأمثال الحلاج ، وابن عربى والجيلى ، ومن حذا حذوهم ، ممن نقلوا التصوف من العمل إلى المنطق والتنظير ، فليس هؤلاء هم كل الصوفية ، فهم لم يزيدوا عن عدد الأصابع – عند التسليم بانهم شطحوا ، أو تطرفوا ، أو تغالوا ، أو حتى انحرفوا – وهو بشر ، اجتهدوا ، وما كتبوه قابل للتأويل ، وحسن التوجيه عند المنصفين ، فهو ليس للعامة وأمرهم فيه إلى الله من قبل ومن بعد .
ومن الظلم الشائن أن يقف الناقدون عند هؤلاء هم كل الصوفية ، وينسوا أمثال الجنيضد ، والقشيرى ، والسلمى ، وابن رزوق ، وابن عطاء الله ، وأبى طالب المكى ، والهروى والسهرودى ، والغزالى ، والسيوطى ، والسنوسى ، والدردير ، وأمثالهم ، سلفاً وخلفاً وهؤلاء ايضاً بشر لهم خطأ وصواب .
ولكنهم من باب غير الباب
أن التصوف هو : " التقوى " هو التزكية قولاً ، وعملاً وحالاً : حقيقة ، ومثالاً ، وسيلة ، وغاية ، فعلاً وأثراً ، فما لم يكن كذلك ، فليس من التصوف ، ووزره على صاحبه وحده ، وكما لا يتحمل المسئلون أوزار المنحرفين من أهل القبلة ، فليس من الدين ولا من الخلق أن يتحمل الصوفية الشرعيون أوضار من سبوقهم بالانتساب إلى التصوف ؛ فإنه لا تزر وازرة أخرى .
ثم إنه لم يعد بيننا اليوم من يفهم رموزهم أو يقول بأقوالهم ، أو يعتقد عقيدتهم – إن صح كل ما قيل عنهم – ولا تنس كيف دسوا على الشعرانى فى حياته ، كما سجله فى كتبه ، فكيف بعد مماته !
التصوف – يا ولدى – هو ربانية الإسلام ، هو : الصفاء ، هو بركة السماء ، هو الحب : حب الله ، من حبه ينبثق حب أحبابه ، وحب ما من أجله خلق الإنسان .
السؤال الثانى
عندما يلغز الصوفية فى أشعارهم وأناشيدهم بلفظ ( ليلى . والكأس ، والخمر ) ونحو ذلك تعبيراً عن مواجيدهم ، ألا ترى فى ذلك نوعاً تسرب الطبيعة المكبوتة ، وجهراً بها ؟
الجواب :
اختار بعض الصوفية الإلغاز والإشارة والتحجية باستعمال المجاز والكناية ، والاستعارات ، الرموز اللغوية ، تعبيراً عن أذواقهم ، ومواجيدهم ، وأشواقهم . حتى أختصوا بذلك وعرفوا بأهل الإشارة لأسباب عدة منها :
عدم مساعفة الألفاظ والعبارات المألوفة لتصوير مداركهم ومشاعرهم ؛ فكان اللجوء إلى الإشارة والرمز ضرورة ، لقربها من حسن عرض المشاعر والأحاسيس ، وتصويرها ، والتعبير عنها .
ثم إن لكل علم مصطلحاً مستحدثاُ ، وهذا اصطلاحهم الخاص بهم – فلماذا يؤاخذون على انهم استقلوا بنوع من الاصطلاح ، ولا يؤاخذ بقية أصحاب العلوم والفنون والحرف وغيرها ؟!
ومنها ظروف البيئة ، وفسادها بالتسلط والبطش ، والقهر ، العدوان واضطراب الرأى ، ثم الرغبة فى اثبات الكيان الذاتى ، والشخصية المستقلة للدعوة ، والحرص على عدم تميع خصائصها ، والتلويج بأنها طريقة الخاصة فى محاولة لإنقاذ الأمة ، مما دهاها ، وتقويم ما أعوج منها عندما استشرى الفساد ، وتحكم السوط والسيف فى الرقاب ولم يبق للحرية أثر .
وخصوصاً بعد أن اقام أول تجمع للصوفية فى العهد الأول ، كثورة على الترف ، والاستعجام ، والانحلال الذى غزا البيوت والأسواق . وحافظت عليه الطبقة " البرجوازية " كما نسميهم الآن ، ومن ثم تعرض كل ناقد أو منذر " فى الله " إلى ما لا يخطر بالبال من العدوان عليه ، والمكر به ، والتدبير له ، والبطش بأعوانه ، شأن عصور الدكتاتورية والقهر فى كل أمة حتى اليوم .
لهذا ولغيره ، عد الصوفية فى كثير من أشعارهم وأناشيدهم وأحاديثهم إلى الرمز والإشارة ، واستعمال المجاز والاستعارة ، وربما إلى مايشبه الإلغاز والتحجية
أما فكرة الكبت والتنفيس ، والتصعيد ، تطبيقاً لنظرية " فرويد " فقد اثبت زملاء وتلاميذ هذا الفرويد اليهودى المنحل أنها نظرية غير مطردة ، ولا غالبة ، وقرروا جميعاً أن " فرويد نفسه ، كان مشحوناً . بالأزمات والعقد التى لم ينفع معها تصعيد ولا تنفيس ، ولا تطبيق لشئ من نظريته الجنسية الفاجرة .
ولو سلمنا بأن أقوال الصوفية ، فيها نوع من التصعيد والتنفيس عن انفعالات حبهم لله ورسوله y ، وفنائهم عن الكون بالمكون ، وعن الأثر بالمؤثر ، لكان تسرباً محموداً ، لطبيعة طيبة مكبوتة ، فى مستودع الحب الربانى المكنون ، فتصبح عبادة أشبه بدعاء المضطر ، الذى يناجى ويبتهل ، تنفيساً عما يجد ، فيرق ويروق ويرق ، حتى يكون أهلاً لاستجابة الدعاء ، أليس كذلك ؟
أما معانى المصطلحات ، فتطلب من كتبهم ، وخصوصاً ما كتبه فيه الشيخ ابن عجيبة ، والشيخ على وفا ، ومن قبلهم وبعدهم .
السؤال الثالث
(س) ما رآيك فيما يقوله أبو حامد الغزالى من " أن العقل يعجز عن كشف أو معرفة الحقيقة اليقنية التى هى " الله " وأن القلب وحده هو القادر على ذلك بالكشف ، إذا أخذت النفس بالطاعة والإخلاص ، وربما استطاعت عين القلب أن ترى الله يقظة ، وفى حال الصحو " ؟
الجواب :
أما عن الجزء الأول من السؤال ، فقد أجمع المسلمون على عجز العقل عن إدراك حقيقة الذات المقدسة ، وذلك لأن العقل حادث والحادث لا يحيط بالقديم ، ثم لآن العقل محدود ، والمحدود يستحيل أن يحيط بغير المحدود ، ثم لأن الإدارك أثر للتصور ، وكل تصور بشرى : مدموغ بالنقص . وتعالى الكامل أن يدركه الناقص ، ومن هنا جاءت القاعدة الراشدة : ( كل ما خطر ببالك ، فالله بخلاف ذلك ) وجاء فى الأثر " تفكروا فى خلق الله ، ولا تتفكروا فى ذات الله " " وورد أيضاً " تفكروا فى آلاء الله ولا تفكروا فى الله " { رواه أبو الشيخ والطبرانى فى الاوسط ، وابن عدى ، والبهيقى فى شعب الايمان } .
وروى أبو نعيم فى الحلية : " تفكروا فى خلق الله ، ولا تفكروا فى الله " .
أليس المنطق تعلم الة من ألآلات لللاستعمال العقلى ؟ فماذا ترى والقضية المنطقية بكل شروطها تثبت الأمر الواحد فى ترتيب آخر ، وهى هى ، وهو هو ؟! فعدم إدراك العقل للذات العلية ، قضية مفروغ منها " عقلاً ونقلاً " ولذلك قالوا : " ترك الإدارك إدراك ، والبحث فى الذات كفر وإشراك " .
وأما عن الجزء الثانى ، وهو قدرة القلب على الكشف ، باستصحاب الطاعة والتصفية والإخلاص ، فلعل سر ذلك : أن الله تعالى جعل القلب مستودع الاسرار ، وخزينة الانفعالات المتقابلة،ومستقر عجائب المعانى والغيوب ، فالبصر للملك،والبصيرة للملكوت .
فمثلاً :
القلب مستقر الايمان ] حببت إليكم الإيمان وزينه فى قلوبكم [ { سورة الحجرات ، الآية : 7 } – وهو محل الالفة والحب ] وألف بين قلوبهم [ { سورة الأنفال ، الآية : 63 } وهو محل الطمأنينة ] ألا بذكر الله تطمئن القلوب [ { سورة الرعد ، الآية : 28 ] ، وهو محل التمحيص ] وليمحص ما فى قلوبهم [ [ سورة آل عمران ، الأية : 154 ] .
وهو محل السلامة ] إذا جاء ربه بقلب سليم [ [ سورة الصافات ، الآية 84 ] ، وهو محل الذكرى ] إن فى ذلك لذكرى لمن كان له قلب [ ، وهو محل التقوى ] ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب [ { سورة الحج ، الاية :32 ] وهو محل السكينة ] انزل السكينة فى قلوب المؤمنين [ ، وهو محل الرأفة والرحمة ] وجعلنا فى قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة [ " سورة الحديد ، الآية : 27 " وهو الربط الالهى ] وربطنا على قلوبهم إذا قاموا فقالوا ربنا رب السموات والأرض [ { سورة الكهف ، الآية : 14 ] ، وهو محل الوجل ] الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم [ ، وهو محل الخشوع ] ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله [ " سورة الحديد ، الآية 16 " . وهو محل الفقه ] أم لهم قلوب لا يفقهون بها [ ... الخ فهو هنا مشرق الأنوار ، ومهبط الاسرار .
وفى المقابل نجد القلب محل الغل ] ولا تجعل فى قلوبنا غل للذين آمنوا [ وهو محل الزيغ ] فأما الذين فى قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه [ ، وهو محل المرض ] وفى قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً [ [ سورة البقرة ، الآية : 10 } وفى محل الغيظ ] ويذهب غيظ قلوبهم [ سورة التوبة ، الآية : 15 } .
وهكذا ، لن نستطيع تتبع وظائف القلب وحركاته ، المردى منها والمرضى ، مما يدل على أن القلب هو مستودع سر الله ، ومستقر غيبه فى الإنسان ، ومن هنا جاء المعنى الدقيق فى قوله تعالى : ] ومن يؤمن بالله يهد قلبه [ { سورة التغابن ، الآية : 11 } وهداية القلب إلهام وتوجيه وأسرار وكشوف ، وشهود ، معارف ، وسمو ، وترق فى معارج القرب لتحقيق معنى الهجرة إلى الله والفرار المطلوب منا إليه " فى مل قوله تعالى ] ففروا إلى الله [ ، الآية : 50 من سورة الذاريات .
وكيف أنه خزينة النور الأقداس قوله تعالى : ] نزل به الروح الأمين على قلبك [ " سورة الشعراء ، الآية : 193 . فما أروع وما أبدع ، وما أمتع ( على قلبك ) لا على شئ آخر !!
فلعل إمامنا الغزالى ، وقد رأى القلب بهذه المنزلة ، وتحقق من أنه الكوة الوحيدة التى تظل منها الروح على عوالم الغيب ، ومساتير الخلق فلم يستبعد أن يهب الله عبداً صالحاً صافياً لحظة فيض ومدد ، يأخذ فيها عن نفسه ، ويشهده بفضله ، حضر قدسه ] والله غالب على أمره [ وللصوفية فى ذلك مقولات شتى .
إن مشاكل السمعيات والغيبيات ، وعجائب القضاء والقدر ، ومعقدات حكمة الخلق والأمر ، وخفى أسرار العبادات ، كل ذلك ، لا يحل معضلاته إلا القلب ، بعد أن أفلس العقل فى هذا المجال وتوقف ولا زال ، وسيظل كذلك .
ثم إن هذه من التجارب الصوفية التى لا مجال للتمنطق فيها ، وإنما هى من الجوانب العلمية ، التى تثمر الأذواق والمواجيد ، وتتجاوب فى آفاقها الاشواق ، فلا يدركها تعبير ، ولا يلحقها تصور .
وعلى كل ، فهى من المذاهب الفرعية ، التى من شاء قبلها ومن لم يشأ رفضها : ما لم يجرب ، وكلاهما مقدور ، ولعله مأجور .
عليك ايها المريد الاكثار من ذكرالله ليطمئن قلبك ويكفى همك وتنال محبة ربك .
عليك ايها المريد الاكثار من ذكرالله ليطمئن قلبك ويكفى همك وتنال محبة ربك .