بسم الله الرحمن الرحيم
التعرف لمذهب أهل التصوف
الحمد الله المحتجب بكبريائه عن درك العيون المتعزز بجلاله وجبروته عن لواحق الظنون المتفرد بذاته عن شبه ذوات المخلوقين المتنزه بصفاته عن صفات المحدثين القديم الذي لم يزل والباقي الذي لا يزال المتعالي عن الأشباه والأضداد والأشكال الدال لخلقه على وحدانيته باعلامه وآياته المتعرف إلى اوليائه بأسمائه ونعوته وصفاته المقرب أسرارهم منه والعاطف بقلوبهم عليه المقبل عليهم بلطفه الجاذب لهم إليه بعطفه طهر عن أدناس النفوس أسرارهم وأجل عن موافقة الرسوم اقدارهم اصطفى من شاء منهم لرسالته وانتخب من أراد لوحيه وسفارته انزل عليهم كتبا أمر فيها ونهى ووعد من أطاع وأوعد من عصى أبان فضلهم على جميع البشر ورفع درجاتهم أن يبلغها قدر ذي خطر ختمهم بمحمد عليه وعليهم الصلاة والسلام وأمر بالإيمان به والإسلام فدينه خير الأديان وأمته خير الأمم لا نسخ لشريعته ولا أمة بعد أمته حعل فيهم صفوة وأخيارا ونجباء وأبرارا سبقت لهم من الله الحسنى وألزمهم كلمة التقوى وعزف بنفوسهم عن الدنيا صدقت مجاهداتهم فنالوا علوم الدراسة وخلصت عليها معاملاتهم فمنحوا علوم الوراثة وصفت سرائرهم فأكرموا بصدق الفراسة ثبتت أقدامهم وزكت أفهامهم وأنارت أعلامهم فهموا عن الله وساروا إلى الله وأعرضوا عما سوى الله خرقت الحجب أنوارهم وجالت حول العرش أسرارهم وجلت عند ذي العرش أخطارهم وعميت عما دون العرش ابصارهم فهم أجسام روحانيون وفي الأرض سماويون ومع الخلق بانيون سكوت نظار غيب حضار ملوك تحت أطمار انزاع قبائل وأصحاب فضائل وأنوار دلائل آذانهم واعية وأسرارهم صافية ونعوتهم خافية صفوية صوفية نورية صفية ودائع الله بين خليقته وصفوته في بريته ووصاياه لنبيه وخباياه عند صفيه هم في حياته أهل صفته وبعد وفاته خيار أمته لم يزل يدعو الأول الثاني والسابق التالي بلسان فعله أعناه ذلك عن قوله
حتى قل الرغب وفتر الطلب فصار الحال أجوبة ومسائل وكتبا ورسائل فالمعاني لأربابها قريبة والصدور لفهمها رحيبة
إلى أن ذهب المعنى وبقى الاسم وغابت الحقيقة وحصل الرسم فصار التحقيق حلية والتصديق زينة وادعاه من لم يعرفه وتحلى به من لم يصفه وأنكره بفعله من أقر به بلسانه وكتمه بصدقه من أظهره ببيانه وأدخل فيه ما ليس منه ونسب إليه ما ليس فيه فجعل حقه باطلا وسمى عالمه جاهلا وانفرد المتحقق فيه ضنا به وسكت الواصف له غيرة عليه فنفرت القلوب منه وانصرفت النفس عنه فذهب العلم وأهله والبيان وفعله فصار الجهال علماء والعلماء أذلاء
فدعاني ذلك إلى أن رسمت في كتابي هذا وصف طريقتهم وبيان نحلتهم وسيرتهم من القول في التوحيد والصفات وسائر ما يتصل به مما وقعت فيه الشبهة عند من لم يعرف مذاهبهم ولم يخدم مشايخهم وكشفت بلسان العلم ما أمكن كشفه ووصفت بظاهر البيان ما صلح وصفه ليفهمه من لم يفهم إشاراتهم ويدركه من لم يدرك عباراتهم وينتفي عنهم خرص المتخرصين وسوء تأويل الجاهلين ويكون بيانا لمن أراد سلوك طريقه مفتقرا إلى الله تعالى في بلوغ تحقيقه بعد أن تصفحت كتب الحذاق فيه وتتبعت حكايات المتحققين له بعد العشرة لهم والسؤال عنهم
وسميته بكتاب التعرف لمذهب أهل التصوف إخبارا عن الغرض بما فيه بما فيه
وبالله أستعين وعليه أتوكل وعلى نبيه أصلي وبه أتوسل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
الباب الأول
قولهم في الصوفية لم سميت الصوفية صوفية
قالت طائفة إنما سميت الصوفية صوفية لصفاء أسرارها ونقاء اثارها
وقال بشر بن الحارث الصوفي من صفا قلبه لله
وقال بعضهم الصوفى من صفت لله معاملته فصفت له من الله عز و جل كرامته
وقال قوم إنما سموا صوفية لأنهم في الصف الأول بين يدي الله جل وعز بارتفاع هممهم إليه وإقبالهم بقلوبهم عليه ووقوفهم بسرائرهم بين يديه
وقال قوم إنما سموا صوفية لقرب أوصافهم من أوصاف أهل الصفة الذين كانوا كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم
وقال قوم إنما سموا صوفية للبسهم الصوف
وأما من نسبهم إلى الصفة والصوف فإنه عبر عن ظاهر أحوالهم وذلك أنهم قوم قد تركوا الدنيا فخرجوا عن الأوطان وهجروا الاخدان وساحوا في البلاد وأجاعوا الأكباد وأعروا الأجساد لم يأخذوا من الذنيا إلا مالا يجوز تركه من ستر عورة وسد جوعة
فلخروجهم عن الأوطان سموا غرباء
ولكثرة أسفارهم سموا سياحين
ومن سياحتهم في البراري وإيوائهم إلى الكهوف عند الضرورات سماهم بعض أهل الديار شكفتية والشكفت بلغتهم الغار والكهف وأهل الشام سموهم جوعية لأنهم إنما ينالون من الطعام قدر ما يقيم الصلب للضرورة كما قال النبي صلى الله عليه و سلم بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه
وقال السرى السقطى ووصفهم فقال أكلهم اكل المرضى ونومهم نوم الغرقى وكلامهم كلام الخرقى ومن تخليهم عن الأملاك سموا فقراء قيل لبعضهم من الصوفي قال الذي لا يملك ولا يملك يعنى لا يسترقه الطمع وقال آخر هو الذي لا يملك شيئا وإن ملكه بذله
ومن لبسهم وزيهم سموا صوفية لأنهم لم يلبسوا لحظوظ النفس مالان مسه وحسن منظره وإنما لبسوا لستر العورة فتجزوا بالخشن من الشعر والغليظ من الصوف
ثم هذه كلها أحوال أهل الصفة الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فإنهم كانوا غرباء فقراء مهاجرين أخرجوا من ديارهم وأموالهم ووصفهم ابو هريرة وفضالة بن عبيد فقالا يخرون من الجوع حتى تحسبهم الأعراب مجانين وكان لباسهم الصوف حتى إن كان بعضهم يعرق فيه فيوجد منه ريح الضأن إذا أصابه المطر هذا وصف بعضهم لهم حتى قال عيينة بن حصن للنبي صلى الله عليه و سلم إنه ليؤدينى ريح هؤلاء أما يؤذيك ريحهم
ثم الصوف لباس الأنبياء وزى الأولياء
وقال أبو موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه و سلم إنه مر بالصخرة من الروحاء سبعون نبيا حفاة عليهم العباء يأمون البيت العتيق وقال الحسن البصري كان عيسى علية السلام يلبس الشعر ويأكل من الشجرة ويبيت حيث أمسى وقال أبو موسى كان النبي صلى الله عليه و سلم يلبس الصوف ويركب
الحمار ويأتي مدعاة الضعيف وقال الحسن البصري لقد أدركت سبعين بدريا ما كان لباسهم إلا الصوف
فلما كانت هذه الطائفة بصفة أهل الصفة فيما ذكرنا ولبسهم وزيهم زي أهلها سموا صفية وصوفية
ومن نسبهم إلى الصفة والصف الأول فإنه عبر عن أسرارهم وبواطنهم وذلك أن من ترك الدنيا وزهد فيها وأعرض عنها صفى الله سره ونور قلبه قال النبي صلى الله عليه و سلم اذ دخل النور في القلب انشرح وانفسح قيل وما علامة ذلك يا رسول الله قال التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل نزوله فأخبر النبي صلى الله عليه و سلم أن من نجافي عن الدنيا نور الله قلبه وقال حارثه حين سأله النبي ما حقيقة إيمانك قال عزفت بنفسي عن الدنيا فأظمأت نهاري وأسهرت ليلي وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون وإلى أهل النار يتعادون
فأخبر أنه لما عزف عن الدنيا نور الله قلبه فكان ما غاب منه بمنزلة ما يشاهده وقال النبي صلى الله عليه و سلم من أحب أن ينظر إلى عبد نور الله قلبه فلينظر إلى حارثة فأخبر أنه منور القلب
وسميت هذه الطائفة نورية لهذه الأوصاف
وهذا أيضا من أوصاف أهل الصفة قال الله تعالى فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين
والتطهر بالظواهر عن الأنجاس وبالبواطن عن الأهجاس وما يتحرك في الضمير من الخواطر
وقال الله تعالى رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله
ثم لصفاء أسرارهم تصدق فراستهم قال أبو امامة الباهلي رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم
اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله وقال أبو بكر الصديق رضى الله عنه ألقى في روعى أن ذا بطن بنت خارجة فكان كما قال وقال النبي صلى الله عليه و سلم
إن الحق لينطق على لسان عمر وقال أويس القرني لهرم بن حيان حين سلم عليه وعليك السلام يا هرم بن حيان ولم يكن رآه قبل ذلك ثم قال له عرف روحي روحك وقال ابو عبد الله الأنطاكي اذا حالستم أهل الصدق فجالسوهم بالصدق فإنهم جواسيس القلوب يدخلون في أسراركم ويخرجون من هممكم
ثم من كان بهذه الصفة من صفوة سره وطهارة قلبه ونور صدره فهو في الصف الأول لأن هذه أوصفاف السابقين قال النبي صلى الله عليه و سلم
يدخل من أمتي الجنة سبعون ألفا بغير حساب ثم وصفهم وقال
الذين لا يرقون ولا يسترقون ولا يكوون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون
فلصفاء أسرارهم وشرح صدورهم وضياء قلوبهم صحت معارفهم بالله فلم يرجعوا إلى الأسباب ثقة بالله عز و جل وتوكلا عليه ورضا بقضائه
فقد اجتمعت هذه الأوصاف كلها ومعاني هذه الأسماء كلها في أسامى القوم وألقابهم وصحت هذه العبارات وقربت هذه المآخذ
وإن كانت هذه الألفاظ متغيرة في الظاهر فإن المعاني متفقة لأنها إن أخذت من الصفاء والصفوة كانت صفوية
وإن أضيفت إلى الصف أو الصفة كانت صفية أو صفية ويجوز أن يكون
تقديم الواو على الفاء في لفظ الصوفية وزيادتها في لفظ الصفية والصفية إنما كانت من تداول الألسن
وإن جعل مأخذه من الصوف استقام اللفظ وصحت العبارة من حيث اللغة وجميع المعاني كلها من التخلى عن الدنيا وعزوف النفس عنها وترك الأوطان ولزوم الأسفار ومنع النفوس حظوظها وصفاء المعاملات وصفوة الأسرار وانشراح الصدور وصفة السباق وقال بندار بن الحسين الصوفى من اختاره الحق لنفسه فصافاه وعن نفسه برأه ولم يرده إلى تعمل وتكلف بدعوى
وصوفي على زنة عوفي أي عافاه الله فعوفي وكوفي أي كافاه الله فكوفى وجوزى أي جازاه الله ففعل الله به ظاهر في اسمه والله المتفرد به
وقال أبو علي الزوذباري وسئل عن الصوفى فقال من لبس الصوف على الصفاء وأطعم الهوى ذوق الجفاء وكانت الدنيا منه على القفا وسلك منهاج المصطفى
وسئل سهل بن عبد الله التستري من الصوفي فقال من صفا من الكدر وامتلأ من الفكر وانقطع إلى الله من البشر واستوى عنده الذهب والمدر
وسئل أبو الحسن النوري ما التصوف فقال ترك كل حظ للنفس
وسئل الجنيد عن التصوف فقال تصفية القلب عن موافقة البرية ومفارقة الأخلاق الطبيعية وإخماد الصفات البشرية ومجانبة الدواعي النفسانية ومنازلة الصفات الروحانية والتعلق بالعلوم الحقيقية واستعمال ما هو أولى على الأبدية والنصح لجميع الأمة والوفاء لله على الحقيقة واتباع الرسول صلى الله عليه و سلم في الشريعة
وقال يوسف بي الحسين لكل أمة صفوة وهم وديعة الله الذين أخفاهم عن خلقه فإن يكن منهم في هذه الأمة فهم الصوفية
قال رجل لسهل بن عبد الله التستري من أصحب من طوائف الناس فقال عليك بالصوفية فإنهم لا يستكثرون ولا يستنكرون شيئا ولكل فعل عندهم تأويل فهم يعذرونك على كل حال
وقال يوسف بن الحسين سألت ذا النون من أصحب فقال من لا يملك ولا ينكر عليك حالا من أحوالك ولا يتغير بتغيرك وإن كان عظيما فإنك أحوج ما تكون إليه أشد ما كنت تغيرا
وقال ذو النون رأيت امرأة ببعض سواحل الشام فقلت لها من أين اقبلت رحمك الله قالت من عند أقوام تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوافا وطمعا قلت وأين تريدين قالت إلى رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله قلت صفيهم لي فانشأت تقول ... قوم همومهم بالله قد علقت ... فما لهم همم تسمو إلى أحد ... فمطلب القوم مولاهم وسيدهم ... يا حسن مطلبهم للواحد الصمد ... ما إن تنارعهم دنيا ولا شرف ... من المطاعم واللذات والولد ... ولا للبس ثياب فائق أنق ... ولا لروح سرور حل في بلد ... إلا مسارعة في إثر منزلة ... قد قارب الخطو فيها باعد الابد ... فهم رهائن غدران وأودية ... وفي الشوامخ تلقاهم مع العدد
الباب الثاني
في رجال الصوفية
ممن نطق بعلومهم وعبر عن مواجيدهم ونشر مقاماتهم ووصف أحوالهم قولا وفعلا بعد الصحابة رضوان الله عليهم علي بن الحسين زين العابدين وابنه محمد بن علي الباقر وابنه جعفر بن محمد الصادق رضى الله عنهم بعد علي والحسن والحسين رضى الله عنهم وأويس القرني وهرم بن حيان والحسن بن أبي الحسن البصري وأبو حازم سلمة بن دينار المديني ومالك بن دينار وعبد الواحد بن زيد وعتبة الغلام وإبراهيم بن أدهم والفضيل بن عياض وابنه علي بن الفضيل وداود الطائي وسفيان بن سعيد الثوري وسفيان بن عيينه وأبو سليمان الداراني وابنه سليمان وأحمد بن الحواري الدمشقي وأبو الفيض ذو النون بن إبراهيم المصري وأخوه ذو الكفل والسرى ابن المغلس السقطي وبشر بن الحارث الحافي ومعروف الكرخي وأبوحذيفة المرعشي ومحمد بن المبارك الصوري ويوسف بن أسباط رحمهم الله
ومن أهل خراسان والجبل أبو يزيد طيفور بن عيسى البسطامي وأبو حفص الحداد النيسابوري وأحمد بن خضرويه البلخي وسهل بن عبد الله التستري ويوسف بن الحسين الرازي وأبو بكر بن طاهر الأبهري وعلي بن سهل بن الأزهر الأصفهاني وعلى بن محمد البارزي وابو بكر الكناني الدينوري وأبو محمد بن الحسن بن محمد الرحاني والعباس بن الفضل بن قتيبة ابن منصور الدينوري وكهمس بن علي الهمداني والحسن بن علي بن يزدانيار رضي الله عنهم أجمعين
الباب الثالث
فيمن نشر علوم الإشارة كتبا ورسائل
أبو القاسم الجنيد بن محمد بن الجنيد البغدادي وأبو الحسين أحمد بن محمد ابن عبد الصمد النوري وأبو سعيد أحمد بن عيسى الخراز ويقال له لسان التصوف وابو محمد رويم بن محمد وأبو العباس أحمد بن عطاء البغدادي وأبو عبد الله عمرو بن عثمان المكي وأبو يعقوب يوسف بن حمدان السوسي وابو يعقوب إسحاق بن محمد بن أيوب النهرجورى وأبو محمد الحسن بن محمد الجريري وأبو عبد الله محمد بن علي الكتاني وأبو إسحاق إبراهيم بن أحمد الخواص وأبو علي الأوراجي وأبو بكر محمد بن موسى الواسطي وأبو عبد الله الهاشمي وأبو عبد الله هيكل القرشي وأبو علي الروذباري وأبو بكر القحطي
وأبو بكر الشبلي وهو دلف بن جحدر رضوان الله عليهم أجمعين
الباب الرابع
فيمن صنف في المعاملات
أبو محمد عبد الله بن محمد وأبو عبد الله أحمد بن عاصم الأنطاكيان وعبد الله بن خبيق الأنطاكي والحارث بن أسد المحاسبي ويحيى بن معاذ الرازي وأبو بكر محمد بن عمر بن الفضل الوراق الترمذي وأبو عثمان سعيد بن إسماعيل الرازي وأبو عبد الله محمد بن علي الترمذي وأبو عبد الله محمد بن الفضل البلخي وابو علي الجوزجاني وأبو القاسم ابن إسحاق بن محمد الحكيم السمرقندي
وهؤلاء هم الأعلام المذكورون المشهورون المشهود لهم بالفضل الذين جمعوا علوم المواريث إلى علوم الاكتساب
سمعوا الحديث وجمعوا الفقه والكلام واللغة وعلم القرآن تشهد بذلك كتبهم ومصنفاتهم
ولم نذكر المتأخرين وأهل العصر وإن لم يكونوا بدون من ذكرنا علما لأن الشهود يغني عن الخبر عنهم
وبالله التوفيق
الباب الخامس
شرح قولهم في التوحيد
اجتمعت الصوفية على أن الله واحد أحد فرد صمد قديم عالم قادر حي سميع بصير عزيز عظيم جليل كبير جواد رؤوف متكبر جبار باق أول إله سيد مالك رب رحمن رحيم مريد حكيم متكلم خالق زراق موصوف بكل ما وصف به نفسه من صفاته مسمى بكل ما سمى به نفسه لم يزل قديما بأسمائه وصفاته غير مشبه للخلق بوجه من الوجوه لا تشبه ذاته الذوات ولا صفته الصفات لا يجري عليه شئ من سمات المخلوقين الدالة على حدثهم لم يزل سابقا متقدما للمحدثات موجودا قبل كل شئ لا قديم غيره ولا إله سواه ليس بجسم ولا شبح ولا صورة ولا شخص ولا جوهر ولا عرض لا اجتماع له ولا افتراق لا يتحرك ولا يسكن ولا ينقص ولا يزداد ليس بذي أبعاض ولا أجزاء ولا جوارح ولا أعضاء ولا بذي جهات ولا أماكن لا تجري عليه الآفات ولا تاخذه السنات ولا تداوله الأوقات ولا تعينه الإشارات لا يحويه مكان ولا يجري عله زمان لا تجوز عليه المماسة ولا العزلة ولا الحلول في الأماكن لا تحيط به الأفكار ولا تحجبه الأستار ولا تدركه الأبصار
وقال بعض الكبراء في كلام له لم يسبقه قبل ولا يقطعه بعد ولا يصادره من ولا يوافقه عن ولا يلاصقه إلى ولا يحله في ولا يوقفه إذ ولا يؤامره إن ولا يظله فوق ولا يقله تحت ولا يقابله حذاء ولا يزاحمه عند ولا يأخذه خلف ولا يحده أمام ولا يظهره قبل ولا يفنيه بعد ولا يجمعه كل ولا يوجده كان ولا يفقده ليس ولا يستره خفاء تقدم الحدث قدمه والعدم وجوده والغاية أزله
إن قلت متى فقد سبق الوقت كونه
وإن قلت قبل فالقبل بعده
وإن قلت هو فالهاء والواو خلقه
وإن قلت كيف فقد احتجب عن الوصف بالكيفية ذاته
وإن قلت أين فقد تقدم المكان وجوده
وإن قلت ما هو فقد باين الأشياء هويته
لا يجتمع صفتان لغيره في وقت ولا يكون بهما على التضاد فهو باطن في ظهوره ظاهر في استناره فهو الظاهر الباطن القريب البعيد امتناعا بذلك من الخلق أن يشبهوه
فعله من غير مباشرة وتفهيمه من غير ملاقاة وهدايته من غير إيماء
لا تنازعه الهمم ولا تخالطه الأفكار
ليس لذاته تكييف ولا لفعله تكليف
وأجمعوا على أنه لا تدركه العيون ولا تهجم عليه الظنون ولا تتغير صفاته ولا تتبدل أسماؤه لم يزل كذلك ولا يزال كذلك هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شئ عليم ليس كمثله شئ وهو السميع البصير
الباب السادس
شرح قولهم في الصفات
أجمعوا على أن لله صفات على الحقيقة هو بها موصوف من العلم والقدرة والقوة والعز والحلم والحكمة والكبرياء والجبروت والقدم والحياة والإرادة والمشيئة والكلام
وأنها ليست بأجسام ولا أعراض ولا جواهر كما أن ذاته ليس بجسم ولا عرض ولا جوهر
وأن له سمعا وبصرا ووجها ويدا على الحقيقة ليس كالأسماع والأبصار والأيدي والوجوه
وأجمعوا أنها صفات لله وليس بجوارح ولا أعضاء ولا أجزاء وأجمعوا أنها ليست هي هو ولا غيره وليس معنى إثباتها أنه محتاج إليها وانه يفعل الأشياء بها ولكن معناها نفى أضدادها وإثباتها في أنفسها وأنها قائمات به
ليس معنى العلم نفى الجهل فقط ولا معنى القدرة بنفي العجز ولكن إثبات العلم والقدرة
ولو كان بنفي الجهل عالما وبنفي العجز قادرا لكان المراد نفي الجهل والعجز عنه عالما وقادرا
وكذلك جميع الصفات
وليس وصفنا له بهذه الصفات صفة له بل وصفنا صفتنا وحكاية عن صفة قائمة به ومن جعل صفة الله وصفة له من غير ان يثبت لله صفة على الحقيقة فهو كاذب عليه في الحقيقة وذاكر له بغير وصفه وليس هذا كالذكر فيكون مذكورا بذكر في غيره لأن الذكر صفة الذاكر وليس بصفة للمذكور والمذكور مذكور بذكر الذاكر والموصوف ليس بموصوف بوصف الواصف ولو كان وصف الواصف صفة له لكانت أوصاف المشركين والكفر صفات له كنحو الزوجة والولد والأنداد
وقد نزه الله تعالى نفسه عن وصفهم له فقال سبحانه وتعالى عما يصفون فهو جل وعز موصوف بصفة قائمة به ليست ببائنة عنه كما قال تعالى ولا يحيطون بشئ من علمة وقال أنزله بعلمة وقال وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وقال ذو القوة المتين ذو الفضل
العظيم فالله العزة جميعا ذي الجلال والإكرام
وأجمعوا أنها لا تتغاير ولا تتماثل وليس علمه قدرته ولا غير قدرته وكذلك جميع صفاته من السمع والبصر والوجه واليد ليس سمعه بصره ولا غير بصره كما أنه ليس هي هو ولا غيره
واختلفوا في الإتيان والمجئ والنزول فقال الجمهور منهم إنها صفات له كما يليق به ولا يعبر عنها بأكثر من التلاوة والرواية ويجب الإيمان بها ولا يجب البحث عنها
وقال محمد بن موسى الواسطي كما أن ذاته غير معلولة كذلك صفاته غير معلولة وإظهار الصمدية إياس عن المطالعة على شئ من حقائق الصفات أو لطائف الذات
وأولها بعضهم فقال معنى الإتيان منه إيصاله ما يريد إليه ونزوله إلى الشئ إقباله عليه وقربه كرامته وبعده إهانته وعلى هذا جميع هذه الصفات المتشابهة
الباب السابع
اختلافهم في أنه لم يزن خالقا
واختلفوا في أنه لم يزل خالقا فقال الجمهور منهم والأكثرون من القدماء منهم والكبار إنه لا يجوز أن يحدث لله تعالى صفة لم يستحقها فيما لم يزل وإنه لم يستحق اسم الخالق لخلقه الخلق ولا لإحداث البرايا استحق اسم البارئ ولا بتصوير الصور استحق اسم المصور ولو كان كذلك لكان ناقصا فيما لم يزل وتم بالخلق تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وقالوا إن لله تعالى لم يزل خالقا بارئا مصورا غفورا رحيما شكورا وكذلك جميع صفاته التي وصف بها نفسه يوصف بها كلها في الأزل كما يوصف بالعلم والقدرة والعز والكبرياء والقوة كذلك يوصف بالتكوين والتصوير والتخليق والإرادة والكرم والغفران والشكر
ولا يفرقون بين صفة هي فعل وبين صفة لا يقال إنها فعل نحو العظمة والجلال والعلم والقدرة
وكذلك إنه لما ثبت أنه سميع بصير قادر خالق بارئ مصور وأنه مدح له فلو استوجب ذلك بالخلق والمصور والمبرئ لكان محتاجا إلى الخلق والحاجة أمارة الحدث
وأخرى أن ذلك يوجب التغير والزوال من حال إلى حال فيكون غير خالق ثم يكون خالقا وغير مريد ثم يكون مريدا وذلك نحو الأفول الذي انتفى منه خليله إبراهيم عليه السلام بقوله لا أحب الآفلين
والخلق والتكوين والفعل صفات لله تعالى وهو بها في الأزل موصوف والفعل غير المفعول وكذلك التخليق والتكوين ولو كانا جميعا واحدا لكان كون المكونات بأنفسها لأنه لم يكن من الله إليها معنى سوى أنها لم تكن فكانت
ومنع بعضهم من أن يكون فيما لم يزل خالقا وقال إنه يوجب كون الخلق معه في القدم
وأجمعوا أنه لم يزل مالكا إلها ربا ولا مربوب ولا مملوك وكذلك يجوز أن يكون خالقا بارئا مصورا ولا مخلوق ولا مبروء ولا مصور
الباب الثامن
اختلافهم في الأسماء
واختلفوا في الأسماء فقال بعضهم أسماء الله ليست هي الله ولا غيره كما قالوا في الصفات وقال بعضهم أسماء الله هي الله
الباب التاسع
قولهم في القرآنأجمعوا أن القرآن كلام الله تعالى على الحقيقة وأنه ليس بمخلوق ولا محدث ولا حدث
وأنه متلو بألسنتنا مكتوب في مصاحفنا محفوظ في صدورنا غير حال فيها كما أن الله تعالى معلوم بقلوبنا مذكور بألسنتنا معبود في مساجدنا غير حال فيها
وأجمعوا أنه ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض
الباب العاشر
اختلافهم في الكلام ما هو
واختلفوا في الكلام ما هو
فقال الأكثرون منهم كلام الله صفة الله لذاته لم يزل وإنه لا يشبه كلام المخلوقين بوجه من الوجوه وليست له مائية كما أن ذاته ليست لها مائية إلا من جهة الإثبات وقال بعضهم كلام الله أمر ونهي وخبر ووعد ووعيد وقصص وأمثال والله تعالى لم يزل آمرا ناهيا مخبرا واعدا موعدا حامدا ذاما إذا خلقتم وبلغت عقولكم فافعلوا كذا وانتم مذمومون على معاصيكم مثابون على طاعتكم إذا خلقتم كما أنا مأمورون مخاطبون بما نزل من القرأن على النبي صلى الله عليه و سلم ولم نخلق بعد ولم نكن موجودين
وأجمع الجمهور منهم على أن كلام الله تعالى ليس بحروف ولا صوت ولا هجاء بل الحروف والصوت والهجاء دلالات على الكلام وأنها لذوي الآلات والجوارح التي هي اللهوات والشفاه والألسنة والله تعالى ليس بذي جارحة ولا محتاج إلى آلة فليس كلامه بحروف ولا صوت
وقال بعض كبرائهم في الكلام له من تكلم بالحروف فهو معلول ومن كان كلامه باعتقاب فهو مضطر
وقالت طائفة منهم كلام الله حروف وصوت وزعموا أنه لا يعرف كلامه إلا كذلك مع إقرارهم أنه صفة الله تعالى في ذاته غير مخلوق وهذا قول حارث المحاسبي ومن المتأخرين ابن سالم
والأصل في هذا أنه لما ثبت أن الله تعالى قديم وأنه غير مشبه للخلق من جميع الوجوه كذلك صفاته لا تشبه صفات المخلوقين فلا يكون كلامه حروفا وصوتا ككلام المخلوقين
ولما أثبت الله لنفسه كلاما بقوله وكلم الله موسى تكليما وقوله إنما قولنا لشئ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون وقال حتى يسمع كلام الله وجب أن يكون موصوفا به لم يزل لأنه لو لم يكن
موصوفا به فيما لم يزل لكان كلامه كلام المحدثين ولكان في الأزل موصوفا بضده من سكون أو آفة
ولما ثبت أنه غير متغير وأن ذاته ليست بمحل للحوادث وجب أن لا يكون ساكتا ثم صار متكلما فاذا ثبت كلامه وثبت أنه ليس بمحدث وجب الإقرار به ولما لم يثبت أنه حروف وصوت وجب الامساك عنه
ثم القرآن ينصرف في اللغة على وجوه منها
مصدر القراءة كما قال الله تعالى فإذا قرأناه فاتبع قرآنه أي قراءته
والحروف المعجمة في المصاحف تسمى قرآنا قال النبي صلى الله عليه و سلم
لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو
ويسمى كلام الله قرآنا
فكل قرآن سوى كلام الله فمحدث مخلوق والقرآن الذي هو كلام الله فغير محدث ولا مخلوق
والقرآن إذا أرسل وأطلق لم يفهم منه غير كلام الله تعالى فهو إذا غير مخلوق والوقف فيه لأحد أمرين إما أن يقف فيه وهو يصفه بصفة المحدث والمخلوق فهو عنده مخلوق ووقوفه تقية أو يقف وهو منطو على أنه صفة لله في ذاته فلا معنى لوقوفه عن عبارة الخلق والنطق به اللهم إلا أن ينطوي على أنه صفة لله وصفات الله غير مخلوقة ولم يمتحن بناف يجب عليه إثباته فيقول القرآن كلام الله ويسكت إذ لم يأت بغير مخلوق رواية ولا تليت به آية فهو عند ذلك مصيب
الباب الحادي عشر
قولهم في الرؤية
أجمعوا على أن الله تعالى يرى بالأبصار في الآخرة وأنه يراه المؤمنون دون الكافرين لأن ذلك كرامة من الله تعالى لقوله للذين أحسنوا الحسنى وزيادة
وجوزوا الرؤية بالعقل وأوحبوها بالسمع وإنما جاز في العقل لأنه موجود وكل موجود فجائز رؤيته إذا وضع الله تعالى فينا الرؤية له ولو لم تكن الرؤية جائزة عله لكان سؤال موسى عليه السلام أرني أنظر إليك جهلا وكفرا ولما علق الله تعالى الرؤية بشريطة استقرار الجبل بقوله فإن استقر مكانه فسوف تراني وكان ممكنا في العقل استقراره لو أقره الله وجب أن تكون الرؤية المعلقة به جائزة في العقل ممكنة فإذا ثبت جوازه في العقل ثم جاء السمع بوجوبه بقوله وجوة يومئذ ناضرة إلى ربها ناضرة وقوله كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون وقوله للذين أحسنوا الحسنى وزيادة وجاءت الرواية بأنها الرؤية وقال النبي صلى الله عليه و سلم
إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته يوم القيامة والأخبار في هذا مشهورة متواترة وجب القول به والإيمان والتصديق له وما تأولت النافية لها فمستحيل كقولهم في أرني أنظر إليك سؤال آية فإنه قد أراه آياته وقوله لا تدركه الأبصار أنه كما لا تدركه الأبصار في الدنيا كذلك في الآخرة وإنما نفى الله تعالى الإدراك بالأبصار لأن الإدراك يوجب كيفية وإحاطة فنفى ما يوجب الكيفية والإحاطة دون الرؤية التي ليست فيها كيفية وإحاطة
وأجمعوا أنه لا يرى في الدنيا بالأبصار ولا بالقلوب إلا من جهة الإيقان لأنه غاية الكرامة وأفضل النعم ولا يجوز أن يكون ذلك إلا في أفضل المكان ولو أعطوا في الدنيا أفضل النعم لم يكن بين الدنيا الفانية والجنة الباقية فرق ولما منع الله سبحانه كليمه موسى عليه السلام ذلك في الدنيا وكان من هو دونه أحرى
وأخرى أن الدنيا دار فناء ولا يجوز أن يرى الباقي في الدار الفانية ولو رأوه في الدنيا لكان الإيمان به ضرورة
والجملة أن الله تعالى أخبر أنها تكون في الآخرة ولم يخبر أنها تكون في الدنيا فوجب الانتهاء إلى ما أخبر الله تعالى به
الباب الثاني عشر
اختلاف قولهم في رؤية النبي عليه السلام
واختلفوا في النبي صلى الله عليه و سلم هل رأى ربه ليلة المسرى
فقال الجمهور منهم والكبار إنه لم يره محمد صلى الله عليه و سلم ببصره ولا احد من الخلائق في الدنيا على ما روى عن عائشة أنها قالت من زعم أن محمدا رأى ربه فقد كذب منهم الجنيد والنوري وأبو سعيد الخراز
وقال بعضهم رآه النبي صلى الله عليه و سلم ليلة المسرى وإنه خص من بين الخلائق بالرؤية كما خص موسى عليه السلام بالكلام واحتجوا بخبر ابن عباس وأسماء وأنس منهم أبو عبد الله القرشي والشلبي وبعض المتأخرين وقال بعضهم رآه بقلبه ولم يره ببصره واستدل بقوله ما كذب الفؤاد ما رأى
ولا نعلم أحدا من مشايخ هذه العصبة المعروفين منهم والمتحققين به ولم نر في كتبهم ولا مصنفاتهم ولا رسائلهم ولا في الحكايات الصحيحة عنهم ولا سمعنا ممن أدركنا منهم زعم أن الله تعالى يرى في الدنيا أو رآه أحد من الخلق إلا طائفة لم يعرفوا بأعيانهم
بل زعم بعض الناس أن قوما من الصوفية ادعوها لأنفسهم وقد أطبق المشايخ كلهم على تضليل من قال ذلك وتكذيب من ادعاه وصنفوا في ذلك كتبا منهم أبو سعيد الخراز وللجنيد في تكذيب من ادعاه وتضليله رسائل وكلام كثير
وزعموا أن من ادعى ذلك فلم يعرف الله عز و جل وهذه كتبهم تشهد على ذلك
الباب الثالث عشر
قولهم في القدر وخلق الافعال
أجمعوا أن الله تعالى خالق لأفعال العباد كلها كما أنه خالق لأعيانهم وأن كل ما يفعلونه من خير وشر فبقضاء الله وقدره وإرادته ومشيئته ولولا ذلك لم يكونوا عبيدا ولا مربوبين ولا مخلوقين وقال جل وعز قل الله خالق كل شئ وقال إنا كل شئ خلقناه بقدر وكل شئ فعلوه في الزبر فلما كانت أفعاهم أشياء وجب أن يكون الله خالقها ولو كانت الأفعال غير مخلوقة لكان الله جل وعز خالق بعض الأشياء دون جميعها ولكان قوله خالق كل شئ كذبا تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا
ومعلوم أن الأفعال أكثر من الأعيان فلو كان الله تعالى خالق الأعيان والعباد خالقي الأفعال لكان الخلق أولى بصفة المدح في الخلق من اللع تعالى ولكان خلق العباد أكثر من خلق الله ولو كانوا كذلك لكانوا أتم قدرة من الله تعالى وأكثر خلقا منه وقد قال الله تعالى أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شئ وهو الواحد القهار فنفى أن يكون خالقا غيره وقال الله تعالى وقدرنا فيها السير فأخبر أنه قدر سير العباد وقال والله خلقكم وما تعملون وقال من شر ما خلق
فدل أن مما خلق شرا وقال ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا أي خلقنا الغفلة فيه وقال وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور الا يعلم من خلق فأخبر أن قولهم وسرهم وجهرهم خلق له
وقال عمر رضى الله عنه يارسول الله أرأيت ما نعمل فيه أعلى أمر قد فرغ منه أو أمر مبتدأ فقال على أمر قد فرغ منه فقال عمر أفلا نتكل وندع العمل فقال اعملوا فكل ميسر لما خلق له
وسئل النبي صلى الله عليه و سلم أرأيت رقى نسترقيها ودواء نتداوى به هل يرد من قدر الله
قال إنه من قدر الله
وقال والله لا يؤمن أحد حتى يؤمن بالله وبالقدر خيره وشره من الله
ولما جاز أن يخلق الله تعالى العين الذي هو شر جاز أن يخلق الفعل الذي هو شر
ومجمع على أن حركة المرتعش خلق الله فكذلك حركة غيره غير أن الله تعالى خلق لهذا حركة واختيارا وخلق للآخر حركة ولم يخلق له اختيارا
قال أبو بكر الواسطي في قوله تعالى وله ماسكن في الليل والنهار قال من ادعى شيئا من ملكه وهو ماسكن في الليل والنهار من خطرة وحركة أنها له أو به أو إليه أو منه فقد جاذب القبضة وأوهن العزة
وفي قوله ألا له الخلق والأمر خلق إيجاد وأمر إطلاق مالم يأمر الجوارح أمر إطلاق لم توافقه في شئ كذلك المخالفة
الباب الرابع عشر
قولهم في الاستطاعة
أجمعوا أنهم لا يتنفسون نفسا ولا يطرفون طرفة ولا يتحركون حركة إلا بقوة يحدثها الله تعالى فيهم واستطاعة يخلقها الله لهم مع أفعالهم لا يتقدمها ولا يتأخر عنها ولا يوجد الفعل إلا بها ولولا ذلك لكانوا بصفة الله تعالى يفعلون ماشاءوا ويحكمون ما أرادوا ولم يكن الله القوى القدير بقوله ويفعل الله ما يشاء أولى من عبد حقير ضعيف فقير
ولو كانت الاستطاعة هي الأعضاء السليمة لاستوى في الفعل كل ذي أعضاء سليمة فلما رأينا ذوي أعضاء سليمة ولم نر أفعالهم ثبت أن الاستطاعة ما يرد من القوة على الأعضاء السليمة وتلك القوة متفاضلة في الزيادة والنقصان ووقت دون وقت وهذا يشاهده كل من نفسه
ثم لما كانت القوة عرضا والعرض لا يبقى بنفسه ولا بقاء فيه لأن ما لا يقوم بنفسه ولا يقوم به غيره لا يبقى ببقاء في غيره لأن بقاء غيره ليس ببقاء له بطل أن يكون له بقاء وإذا كان كذلك وجب أن تكون قوة كل فعل غير قوة غيره
ولولا ذلك لم تكن للخلق حاجة إلى الله تعالى عند أفعالهم ولا كانوا فقراء إليه ولكان قوله تعالى وإياك نستعين لا معنى له
ولو كانت القوة قبل الفعل وهي لا تبقى لوقت الفعل لكان الفعل بقوة معدومة ولو كانت كذلك لكان وجود الفعل من غير قوة وفي ذلك إبطال الربوبية والعبودية جميعا لأنه لو كان كذلك لكان يجوز وقوع فعل من غير قوى ولو جاز ذلك لجاز أن يكون وجودها بأنفسها من غير فاعل وقد قال الله تعالى في قصة موسى والعبد الصالح إنك لن تستطيع معي صبرا وقوله ذلك تأويل مالم تسطع عليه صبرا يريد لا تقوى عليه
وأجمعوا أن لهم أفعالا واكتسابا على الحقيقة هم بها مثابون وعليها معاقبون ولذلك جاء الأمر والنهي وعليه ورد الوعد والوعيد
ومعنى الاكتساب أن يفعل بقوة محدثة
وقال بعضهم معنى الاكتساب أن يفعل لجر منفعة أو دفع مضرة لقوله تعالى لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت
وأجمعوا أنهم مختارون لاكتسابهم مريدون له وليسوا بمحمولين عليه ولا مجبرين فيه ولا مستكرهين له
ومعنى قولنا مختارون أن الله تعالى خلق لنا اختيارا فانتفى الإكراه فيها وليس ذلك على التفويض
قال الحسن بن علي رضى الله عنهما إن الله تعالى لا يطاع بإكراه ولا يعصى بغلبة ولم يهمل العباد من المملكة
وقال سهل بن عبد الله إن الله تعالى لم يقو الأبرار بالجبر إنما قواهم باليقين
وقال بعض الكبراء من لم يؤمن بالقدر فقد كفر ومن أحال المعاصي على الله فقد فجر
الباب الخامس عشر
قولهم في الجبر
وأحال بعضهم الجبر وقال لا يكون الجبر إلا بين الممتنعين وهو أن يأمر الآمر ويمتنع المأمور فيجبره الآمر عليه ومعنى الإجبار أن يستكره الفاعل على إتيان فعل هو له كاره ولغيره مؤثر فيختار المجبر إتيان ما يكرهه ويترك الذي يحبه ولولا إكراهه له وإجباره إياه لفعل المتروك وترك المفعول ولم نجد هذه الصفة في اكتسابهم الإيمان والكفر والطاع والمعصية بل اختار المؤمن الإيمان وأحبه واستحسنه وأراده وآثره على ضده وكره الكفر وأبغضه واستقبحه ولم يرده وآثر عليه ضده
والله خلق له الاختيار والاستحسان والارادة للإيمان والبعض والكراهة والاستقباح للكفر قال الله تعالى حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان
واختار الكافر الكفر واستحسنه وأحبه وأراده وآثره على ضده وكره الإيمان وأبغضه واستقبحه ولم يرده وآثر عيه ضده
والله تعالى خلق ذلك كله قال الله عز و جل كذلك زينا لكل أمة عملهم وقال ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا
وليس أحدهما بمنوع عن ضد ما اختاره ولا بمحمول على ما اكتسبه ولذلك وجبت حجة الله عليهم وحق عليهم القول من ربهم ومأوى الكافرين النار بما كانوا يكسبون وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين ويفعل الله ما يشاء لا يسأل عما يفعل وهم يسألون
قال ابن الفرغاني ما من خطرة ولا حركة إلا بالأمر وهو قوله كن فله الخلق بالأمر وله الأمر بالخلق والخلق صفته فلم يدع بهذين الحرفين لعاقل يدعى شيئا من الدنيا والآخرة لا له ولا به ولا إليه فاعلم أنه لا إله إلا الله
الباب السادس عشر
قولهم في الأصلح
أجمعوا على أن الله تعالى يفعل بعباده ما يشاء ويحكم فيهم بما يريد كان ذلك أصلح لهم أولم يكن لأن الخلق خلقه والأمر أمره لا يسأل عما يفعل وهم يسألون
ولولا ذلك لم يكن بين العبد والرب فرق وقال الله تعالى ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما وقال إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون وقال أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم
والقول بالأصلح يوجب نهاية القدرة وتنفيذ مافي الخزائن وتعجيز الله تعالى عن ذلك لأنه إذا فعل بهم غاية الصلاح فليس وزاء الغاية شئ فلو أراد أن يزيدهم على ذلك الصلاح صلاحا آخر لم يقدر عليه ولم يجد بعد الذي أعطاهم ما يعطيهم مما يصلح لهم تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا
وأجمعوا أن جميع ما فعل الله بعباده من الإحسان والصحة والسلامة والإيمان والهداية واللطف تفضل منه ولو لم يفعل ذلك لكان جائزا وليس على الله بواجب ولو كان ما يفعل مما يفعل شيئا واجبا عليه لم يكن مستحقا للحمد والشكر
وأجمعوا أن الثواب والعقاب ليس من جهة الاستحقاق لكنه من جهة لمشيئة والفضل والعدل لأنهم لا يستحقون على أجرام منقطعة عقابا دائما ولا على أفعال معدودة ثوابا دائما غير معدود
وأجمعوا أنه لوعذب جميع من في السموات والأرض لم يكن ظالما لهم ولو أدخل جميع الكافرين الجنة لم يكن ذلك محالا لأن الخلق خلقه والأمر أمره ولكنه أخبر أنه ينعم على المؤمنين أبدا ويعذب الكافرين ابدا وهو صادق في قوله وخبره صدق فوجب أن يفعل بهم ذلك ولا يجوز غيره لأنه لا يكذب في ذلك تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا
وأجمعوا أنه لا يفعل الأشياء لعلة ولو كان لها علة لكان للعة علة إلى ما لا يتناهى وذلك باطل قال الله تعالى إن الذين سبقت لهم من الحسنى أولئك عنها مبعدون وقال هو اجتباكم وقال وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين وقال ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس
ولا يكون شئ منه ظلما ولا جورا لأن الظلم إنما صار ظلما لأنه منهى عنه ولأنه وضع الشئ في غير موضعه والجور إنما كان جورا لأنه عدل عن الطريق الذي بين له والمثال الذي مثل له من فوقه ومن هو تحت قدرته ولما لم يكن الله تحت قدرة قادر ولا كان فوقه آمر ولا زاجر لم يكن فيما يفعله ظالما ولافي شئ يحكم به جائرا ولم يقبح منه شئ لآن القبيح ما قبحه والحسن ما حسنه
وقال بعضهم القبيح ما نهى عنه والحسن ما أمر به
وقال محمد بن موسى إنما حسنت المستحسنات بتجليه وقبحت المستقبحات باستتاره وإنما هما نعتان يجريان على الأبد بما جريا في الأزل معناه كل ماردك إلى الحق من الأشياء فهو حسن وما ردك إلى شئ دونه فهو قبيح فالقبيح والحسن ما حسنه الله في الأزل وماقبحه
ومعنى آخر أن المستحسن هو ما تخلى عن ستر النهى فلم يكن بين العبد وبينه ستر والقبيح ما كان وراء الستر وهو النهي على معنى قوله عليه السلام
وعلى الأبواب ستور مرخاة قيل الأبواب المفتحة محارم الله والستور حدوده
الباب السابع عشر
قولهم في الوعد والوعيد
أجمعوا أن الوعيد المطلق في الكفار والمنافقين
والوعد المطلق في المؤمنين المحسنين
وأوجب بعضهم غفران الصغائر باجتناب الكبائر بقوله إن تجتنبوا كبائر ماتنهون عنه وجعلها بعضهم كالكبائر في جواز العقوبة عليها لقوله تعالى إن تبدوا مافي أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله
وقالوا معنى قوله إن تجتنبوا كبائر ماتنهون عنه هو الشرك والكفر وهو أنواع كثيرة فجاز أن يطلق عليها اسم الجمع وفيه وجه آخر وهو أن الخطاب خرج على الجمع فكانت كبيرة كل واحد منهم عند الجمع كبائر وجوزوا غفران الكبائر بالمشيئة والشفاعة
وأوجبوا الخروج من النار لأهل الصلاة لا محالة بإيمانهم قال الله تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر مادون ذلك لمن يشاء فجعل المشيئة شرطا فيما دون الشرك وجملة قولهم إن المؤمن بين الخوف والرجاء يرجو فضل الله في غفران الكبائر ويخاف عدله في العقوبة على الصغائر لأن المغفرة مضمون المشيئة ولم يأت مع المشيئة شرط كبيرة ولا صغيرة
ومن شدد وغلظ في شرائط التوبة وارتكاب الصغائر فليس ذلك منهم على إيجاب الوعيد بل ذلك على تعظيم الذنب في وجوب حق الله في الانتهاء عما نهى عنه ولم يجعلوا في الذنوب صغيرة إلا عند نسبة بعضها الى بعض فطالبوا النفوس بإيفاء حق الله تعالى والانتهاء عما نهى الله عنه والوفاء بما أمر به الله ورؤية التقصير في شرائط العمل
وهم مع ذلك كله ارجى الناس للناس وأشدهم خوفا على أنفسهم حتى كان الوعيد لم يرد إلا فيهم والوعد لم يكن إلا لغيرهم
قيل للفضيل عشية عرفة كيف ترى حال الناس
قال مغفورون لولا مكاني فيهم
وقال السرى السقطي إني لأنظر في المرآة كل يوم مرار مخافة أن يكون قد اسود وجهي
وقال لا أحب أن أموت حيث أعرف مخافة أن لا تقبلني الأرض فأكون فضيحة
وهم أحسن الناس ظنونا بربهم
قال يحيى من لم يحسن بالله ظنه لم تقر بالله عينه
وهم أسوأ الناس ظنونا بأنفسهم وأشدهم إزراء بها لا يرونها أهلا لشئ من الخير دينا ولا دنيا
والجملة أن الله تعالى قال وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا الآية أخبر أن المؤمن له عملان صالح وسيء فالصالح له والسيء عله
وقد وعد الله تعالى على ما له ثوابا وأوعد على ما عليه عقابا والوعيد حق الله تعالى من العباد والوعد حق العباد على الله فيما أوجبه على نفسه فإن استوفى منهم حق نفسه ولم يوفهم حقهم لم يكن ذلك لائقا بفضله مع غناه عنهم وفقرهم اليه بل الاليق بفضله والاحرى بكرمه أن يوفيهم حقوقهم ويزيدهم من فضله ويهب منهم حق نفسه وبذلك أخبر عن نفسه فقال إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما وفي قوله من لدنه أنه تفضل وليس بجزاء
الباب الثامن عشر
قولهم في الشفاعة
أجمعوا على أن الاقرار بجملة ما ذكر الله تعالى في كتابه وجاءت به الروايات عن النبي صلى الله عليه و سلم في الشفاعة واجب لقوله تعالى ولسوف يعطيك ربك فترضى عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وقول الكفار فما لنا من شافعين
وقال النبي صلى الله عليه و سلم شفاعتي لاهل الكبائر من أمتي وقوله واختبأت دعوتي الشفاعة لامتي
وأقروا بالصراط وأنه جسر يمد على جهنم وقرأت عاشئة رضي الله عنها يوم تبدل الارض غير الارض قالت فأين الناس حينئذ يا رسول الله فقال على الصراط
وأقفراوا بالميزان وأن أعمال العباد توزن كما قال الله تعالى فمن ثقلت موازينه فألئك هم المفلحون ومن خفت موازينه وإن لم يعلموا كيفية ذلك وقولهم في هذا وأمثاله مما لا يدرك العباد كيفيته
آمنا يما قال الله على ما أراد الله آمنا بما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما أراد رسول الله
وأقروا أن الله تعالى يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان على ما جاء في الحديث
وأقروا بتأبيد الجنة والنار وأنهما مخلوقتان وأنهما باقيتان أبد الابد لا تفنيان ولا تبيدان وكذلك أهلوهما باقون فيهما خالدون مخلدون منعمون ومعذبون لا ينفد نعيمهم ولا ينقطع عذابهم
وشهدوا لعامة المؤمنين بالايمان في ظاهر أمورهم ووكلوا سرائرهم الى الله تعالى وأقروا أن الدار دار إيمان وإسلام وأن أهلها مؤمنون مسلمون
وأهل الكبائر عندهم مسلمون مؤمنون بما معهم من الإيمان فاسقون بما فيهم من الفسق
ورأوا الصلاه خلف كل بر وفاجر
ورأوا الصلاة على كل من مات من أهل القبلة
ورأوا الجمعة والجماعات والأعياد واجبة على من لم يكن له عذر من المسلمين مع كل إمام بر أو فاجر
وكذلك الجهاد معهم والحج
ورأوا الخلافة حقا وأنها في قريش
وأجمعوا على تقديم أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم
ورأوا الاقتداء بالصحابة والسلف الصالح وسكتوا عن القول فيما كان بينهم من التشاجر ولم يروا ذلك قادحا فيما سبق لهم من الله عز و جل من الحسنى
وأقروا أن من شهد له رسول الله صلى الله عليه و سلم بالجنة فهو في الجنة وأنهم لا يعذبون بالنار
ولا يرون الخروج على الولاة بالسيف وإن كانوا ظلمة
ويرون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبا لمن أمكنه بما أمكنه مع شفقة ورأفة ورفق ورحمة ولطف ولين من القول
ويؤمنون بعذاب القبر وبسؤال منكر ونكير
وأقروا بمعراج النبي صلى الله عليه و سلم وأنه عرج به إلى السماء السابعة وإلى ماشاء الله في ليلة في اليقظة ببدنه
ويصدقون بالرؤيا وأنها بشارة للمؤمنين وإنذار لهم وتوقيف
وعندهم أن من مات أو قتل فبأجله ولا يقولون باخترام الآجال وأنه إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون
الباب التاسع عشر
قولهم في الأطفال
وأقروا أن أطفال المؤمنين مع آبائهم في الجنة واختلفوا في أطفال المشركين فمنهم من قال لا يعذب الله بالنار إلا بعد لزوم الحجة على من عاند وكفر ووجبت عليه الأحكام وأرجأ الأكثرون أمرهم إلى الله تعالى وجوزوا تعذيبهم وتنعيمهم
وأجمعوا على أن المسح على الخفين حق
وجوزوا أن يرزق الله الحرام
وأنكروا الجدال والمراء في الدين والخصومة في القدر والتنازع فيه
ورأوا التشاغل بما لهم وعليهم أولى من الخصومات في الدين
ورأوا طلب العلم أفضل الأعمال وهو علم الوقت بما يجب عليهم ظاهرا وباطنا
وهم أشفق الناس على خلق الله من فصيح وأعجم وأبذل الناس بما في أيديهم وأزهدهم عما في أيدي الناس واشدهم إعراضا عن الدنيا وأكثرهم طلبا للسنة والآثار وأحرصهم على اتباعها
الباب العشرون
فيما كلف الله البالغين
أجمعوا أن جميع ما فرض الله تعالى على العباد في كتابه وأوجبه رسول الله صلى الله عليه و سلم فرض واجب وحتم لازم على العقلاء البالغين لا يجوز التخلف عنه ولا يسع التفريط فيه بوجه من الوجوه لأحد من الناس من صديق وولي وعارف وإن بلغ أعلى المراتب وأعلى الدرجات وأشرف المقامات وأرفع المنازل
وأنه لا مقام للعبد تسقط معه آداب الشريعة من إباحة ما حظر الله أو تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله أو سقوط فرض من غير عذر ولا علة والعذر والعلة ما أجمع عليه المسلمون وجاءت به أحكام الشريعة
ومن كان أصفى سرا وأعلى رتبة وأشرف مقاما فإنه اشد اجتهادا وأخلص عملا وأكثر توقيا
وأجمعوا أن الأفعال ليست بسبب للسعادة والشقاوة وأن السعادة والشقاوة سابقتان بمشيئة الله تعالى لهم ذلك وكتابه عليهم كما جاء في الحديث
قال عبد الله بن عمر قال رسول الله صلى الله عليه و سلم هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا وكذلك قال في أهل النار
وقال عليه السلام السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه
وأجمعوا أنها ليست بموجبة للثواب والعقاب من حيث الاستحقاق بل من جهة الفضل ومن جهة إيجاب الله تعالى ذلك
وأجمعوا أن نعيم الجنة لمن سبق له من الله السعادة من غير علة وأن عذاب النار لمن سبق له من الله الشقاوة من غير علة كما قال هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي
وقال ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس وقال إن الذين سبقت لهم من الحسنى أولئك عنها مبعدون
وقالوا إنها أعنى أفعال العباد علامات وأمارات على ما سبق لهم من الله كما قال النبي صلى الله عليه و سلم اعملوا فكل ميسر لما خلق له
وقال الجنيد الطاعة عاجل بشراه على ما سبق لهم من الله تعالى وكذلك المعصية
وقال غيره العبادات حلية الظواهر والحق لا يبيح تعطيل الجوارح من حلاها
وقال محمد بن على الكتاني الأعمال كسوة العبودية فمن ابعده الله عند القسمة نزعها من قربه أشفق عليها ولزمها
وهم مع ذلك مجمعون على أن الله تعالى يثيب عليها ويعاقب لأنه وعد على صالحها وأوعد على سيئها فهو ينجز وعده ويحقق وعيده لأنه صادق خبره صدق
وقالوا على العباد بذل المجهود في أداء ما كلف وإتيان ما ندب إليه بعد التكليف وبعد إتيانها وإيفاء ما عليه تكون المشاهدات كما جاء في الحديث
من عمل بما علم ورثه الله علم مالم يعمل
وقال الله تعالى والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا
وقال يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون
وقال يحيى لن يصل إلى قلبك روح المعرفة وله عليك حق لم تؤده
وقال الجنيد إن الله تعالى يعامل عباده في الآخر على حسب ماعاملهم في الأول بدأهم تكرما وأمرهم ترحما ووعدهم تفضلا ويزيدهم تكرما فمن شهد بره القديم سهل عليه أداء أمره ومن لزم أمره أدركه وعده ومن فاز بوعده لا بد أن يزيده من فضله
وقال سهل بن عبد الله التستري من غمض بصره عن الله طرفة عين فلا يهتدي طول عمره
الباب الحادي والعشرون
قولهم في معرفة الله تعالى اجمعوا على أن الدليل على الله هو الله وحده وسبيل العقل عندهم سليل العاقل في حاجته إلى الدليل لأنه محدث والمحدث لايدل إلا على مثله
وقال رجل للنوري ما الدليل على الله
قال الله
قال فما العقل
قال العقل عاجز والعاجز لا يدل إلا على عاجز مثله
وقال ابن عطاء العقل آلة للعبودية لا للإشراف على الربوبية
وقال غيره العقل يجول حول الكون فإذا نظر إلى المكون ذاب
وقال أبو بكر القحطبي من لحقته العقول فهو مقهور إلا من جهة الإثبات ولولا أنه تعرف إليها الألطاف لما أدركته من جهه الإثبات
وأنشدونا لبعض الكبار ... من رامه بالعقل مسترشدا ... سرحه في حيرة يلهو ... وشاب بالتلبيس أسراره ... يقول من حيرته هل هو ...
وقال بعض الكبار لا يعرفه إلا من تعرف إليه ولا يوحده إلا من توحد له ولا يؤمن به إلا من لطف به ولا يصفه إلا من تجلى لسره ولا يخلص له إلا من جذبه إليه ولا يصلح له إلا من اصطنعة لنفسه معنى من تعرف إليه أي من تعرف الله إليه ومعنى من توحد له أي أراه أنه واحد
وقال الجنيد المعرفة معرفتان معرفة تعرف ومعرفة تعريف معنى التعرف ان يعرفهم الله عز و جل نفسه ويعرفهم الأشياء به كما قال إبراهيم عليه السلام لا أحب الآفلين ومعنى التعريف أن يريهم آثار قدرته في الآفاق والأنفس ثم يحدث فيهم لطفا تدلهم الأشياء أن لها صانعا وهذه معرفة عامة المؤمنين والأولى معرفة الخواص وكل لم يعرفه في الحقيقة إلا به
وهذا كما قال محمد بن واسع ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله فيه
وقال غيره ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله قبله
وقال ابن عطاء تعرف إلى العامة بخلقه لقوله أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى الخاصة بكلامه وصفاته بقوله أفلا يتدبرون القرآن وقال وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولله الأسماء الحسنى وإلى الأنبياء بنفسه كما قال وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا وقال ألم تر إلى ربك كيف مد الظل وقال بعض الكبراء من أهل المعرفة ... لم يبق بيني وبين الحق تبياني ... ولا دليل ولا آيات برهاني ... هذا تجلى طلوع الحق نائرة ... قد أزهرت في تلاليها بسلطان
لا يعرف الحق إلا من يعرفه ... لا بعرف القدمى المجث الفاني ... لا يستدل على الباري بصنعته ... رأيتم حدثا ينبي عن أزمان ... كان الدليل له منه إليه به ... من شاهد الحق في تنزيل فرقان ... كان الدليل له منه به وله ... حقا وجدناه بل علما بتبيان ... هذا وجودي وتشريحي ومعتقدي ... هذا توحد توحيد وإيماني ... هذا عبارة أهل الانفراد به ... دوي المعارف في سر وإعلان ... هذا وجود وجود الواجدين له ... بني التجانس أصحابي وخلاني ...
وقال بعض الكبراء إن الله تعالى عرفنا نفسه بنفسه ودلنا على معرفة نفسه بنفسه فقام شاهد المعرفة من المعرفة بالمعرفة بعد تعريف المعرف بها
معناه أن المعرفة لم يكن لها سبب غير أن الله تعالى عرف العارف فعرف بتعريفه
وقال بعض الكبار من المشايخ البادي من المكونات معروف بنفسه لهجوم العقل عليه والحق اعز من أن تهجم العقول عليه وأنه عرفنا نفسه أنه ربنا فقال ألست بربكم ولم يقل من أنا فتهجم العقول عليه حين بدا معرفا فلذلك انفرد عن العقول وتنزه عن التحصل غير الإثبات
وأجمعوا أنه لا يعرفه إلا ذو عقل لأن العقل آلة للعبد يعرف به ما عرف وهو بنفسه لا يعرف الله تعالى
وقال أبو بكر السباك لما خلق الله العقل قال له من أنا فسكت فكحله بنور الوحدانية ففتح عينيه فقال أنت الله لا إله إلا أنت
فلم يكن للعقل ان يعرف الله إلا بالله
الباب الثاني والعشرون
اختلافهم في المعرفة نفسها
ثم اختلفوا في المعرفة نفسها ما هي والفرق بينها وبين العلم
فقال الجنيد المعرفة وجود جهلك عند قيام علمه
قيل له زدنا قال هو العارف وهو المعروف
معناه أنك جاهل به من حيث أنت وإنما عرفته من حيث هو
وهو كما قال سهل المعرفة هي المعرفة بالجهل
وقال سهل العلم يثبت بالمعرفة والعقل يثبت بالعلم وأما المعرفة فأنها تثبت بذاتها
معناه أن الله تعالى إذا عرف عبدا نفسه فعرف الله تعالى بتعرفه إليه أحدث له بعد ذلك علما فأدرك العلم بالمعرفة وقام العقل فيه بالعلم الذي احدثه فيه
وقال غيره تبين الأشياء على الظاهر علم وتبينها على استكشاف بواطنها معرفة
وقال غيره اباح العلم للعامة وخص أولياءه بالمعرفة
وقال ابو بكر الوراق المعرفة معرفة الأشياء بصورها وسماتها والعلم علم الأشياء بحقائقها وقال أبو سعيد الخراز المعرفة بالله هي علم الطلب لله من قبل الوجود له والعلم بالله هو بعد الوجود فالعلم بالله اخفى وأدق من المعرفة بالله
وقال فارس المعرفة هي المستوفية في كنه المعروف
وقال غيره المعرفة هي حقر الأقدار إلا قدر الله وأن لا يشهد مع قدر الله قدرا
وقيل لذي النون بم عرفت ربك قال ما هممت بمعصية فذكرت جلال الله إلا استحييت منه جعل معرفته بقرب الله منه دلالة المعرفة له
وقيل لعليان كيف حالك مع المولى قال ما جفوته منذ عرفته
قيل له متى عرفته
قال منذ سموني مجنونا
جعل دلالة معرفته له تعظيم قدره عنده
قال سهل سبحان من لم يدرك العباد من معرفته إلا عجزا عن معرفته
الباب الثالث والعشرون
قولهم في الروح
قال الجنيد الروح شئ استأثر الله بعلمه ولم يطلع عليه أحدا من خلقه ولا يجوز العبارة عنه بأكثر من موجود لقوله قل الروح من امر ربي
قال أبو عبد الله النباجي الروح جسم يلطف عن الحس ويكبر عن اللمس ولا يعبر عنه بأكثر من موجود قال ابن عطاء خلق الله الأرواح قبل الأجساد لقوله تعالى ولقد خلقناكم يعني الأرواح ثم صورناكم يعني الأجساد
وقال غيره الروح لطيف قام في كثيف كالبصر جوهر لطيف قام في كثيف
وأجمع الجمهور على أن الروح معنى يحيى به الجسد
وقال بعضهم هو روح نسيم طيب يكون به الحياة والنفس ريح حارة تكون بها الحركات والسكنات والشهوات
وسئل القحطبي عن الروح فقال لم يدخل تحت ذل كن ومعناه عنده أنه ليس إلا الإحياء والحي والإحياء صفة المحيي كالتخليق والخلق صفة الخالق واستدل من قال ذلك بظاهر قوله قل الروح من أمر ربي
قالوا أمره كلامه وكلامه ليس بمخلوق كأنهم قالوا إنما صار الحي حيا بقوله كن حيا وليس الروح معنى في الجسد حالا مخلوق كالجسد قال الشيخ وليس هذا بصحيح وإنما الصحيح أن الروح معنى في الجسد مخلوق كالجسد
الباب الرابع والعشرون
قولهم في الملائكة والرسل
سكت الجمهور منهم عن تفضيل الرسل على الملائكة وتفضيل الملائكة على الرسل وقالوا الفضل لمن فضله الله ليس ذلك بالجوهر ولا بالعمل ولم يروا أحد الأمرين أوجب من الآخر بخبر ولا عقل
وفضل بعضهم الرسل وبعضهم الملائكة وقال محمد بن الفضل جملة الملائكة أفضل من جملة المؤمنين وفي المؤمنين من هو أفضل من الملائكة كأنه فضل الأنبياء عليهم السلام وعلى الملائكة
وأجمعوا ان بين الرسل تفاضلا لقول الله تعالى ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وقوله تعالى تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض ولم يعينوا الفاضل والمفضول لقوله عليه السلام لا تخيروا بين الأنبياء
وأوجبوا فضل محمد صلى الله عليه و سلم بالخبر وهو قوله عليه والسلام أنا سيد ولد آدم ولا فخر آدم ومن دونه تحت لوائي وسائر الأخبار التي جاءت وقول الله جل وعز كنتم خير أمة أخرجت للناس فلما كانت أمته خير الأمم وجب أن يكون نبيها خير الأنبياء وسائر ما في القرآن من الدلائل على فضله
وأجمعوا جميعا أن الأنبياء أفضل البشر وليس في البشر من يوازي الأنبياء في الفضل لا صديق ولا ولي ولا غيرهم وإن جل قدره وعظم خطره
قال النبي صلى الله عليه و سلم لعلي رضى الله عنه هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين يعني أبا بكر وعمر فأخبر صلى الله عليه و سلم أنهما خير الناس بعد النبيين
قال أبو يزيد البسطامي آخر نهايات الصديقين أول أحوال الأنبياء وليس لنهاية الأنبياء غاية تدرك
وقال سهل بن عبد الله انتهت همم العارفين إلى الحجب فوقفت مطرقة فأذن لها فسلمت فخلع عليها خلع التأييد وكتب لها براءة من الزيغ وهمم الأنبياء
جالت حول العرش فكسيت الأنوار ورفع منها الأقذار واتصلت بالجبار فأفنى حظوظها وأسقط مرادها وجعلها متصرفة به له
قال أبو يزيد لو بدا للخلق من النبي ذرة لم يقم لها مادون العرش
وقال ما مثل معرفة الخلق وعلمهم بالنبي إلا مثل نداوة تخرج من رأس الزف المربوط
قال بعضهم لم ينل أحد من الأنبياء الكمال في التسليم والتفويض غير الحبيب والخليل صلى الله عليهما فلذلك أيس الكبراء عن الكمال وإن كانوا في حال القربة مع تحقيق المشاهدة
قال أبو العباس بن عطاء أدنى منازل المرسلين أعلى مراتب النبيين وأدنى منازل الأنبياء أعلى مراتب الصديقين وأدنى منازل الصديقين أعلى مراتب الشهداء وأدنى منازل الشهداء أعلى مراتب الصالحين وأدنى منازل الصالحين أعلى مراتب المؤمنين
الباب الخامس والعشرون
قولهم فيما أضيف إلى الأنبياء من الزلل
قال الجنيد والنوري وغيرهما من الكبار إن ما جرى على الأنبياء إنما جرى على ظواهرهم وأسرارهم مستوفاة بمشاهدات الحق
واستدلوا على ذلك بقوله تعالى فنسى ولم نجد له عزما
وقالوا ولا تصح الأعمال حتى يتقدمها العقود والنيات وما لا عقد فيه ولا نية فليس بفعل وقد نفى الله تعالى الفعل عن آدم بقوله فنسي ولم نجد له عزما قالوا ومعاتبات الحق لهم عليها إنما جاءت إعلاما للأغيار ليعلموا عند إتيانهم المعاصي مواضع الاستغفار
وأثبتها بعضهم وقالوا إنها كانت على جهة التأويل والخطإ فيه فعوتبوا عليها لعلو مرتبتهم وارتفاع منازلهم فكان ذلك زجرا لغيرهم وحفظا لمواضع الفضل عليهم وتأديبا لهم
وقال بعضهم إنها كانت على جهة السهو الغفلة وجعلوا سهوهم في الأدنى بالأرفع
وهكذا قالوا في سهو النبي صلى الله عليه و سلم في صلاته إن الذي شغله عن صلاته كان أعظم من الصلاة لقوله وجعلت قرة عيني في الصلاة فأخبر أن في الصلاة ما تقر به عينه ولم يقل جعلت قرة عيني الصلاة
وكل من أثبتها زللا وخطايا فإنهم جعلوها صغائر مقرونة بالتوبة كما قال الله تعالى مخبرا عن صفيه آدم وزوجته عليهما السلام ربنا ظلمنا أنفسنا الآية وقوله فتاب عليه وهدى وفي داود عليه السلام وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب
الباب السادس والعشرون
قولهم في كرامات الأولياء
اجمعوا على إثبات كرامات الأولياء وإن كانت تدخل في باب المعجزات كالمشي على الماء وكلام البهائم وطي الأرض وظهور الشئ في غير موضعه ووقته وقد جاءت الأخبار بها وصحت الروايات ونطق بها التنزيل من قصة الذي عنده علم من الكتاب في قوله تعالى أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك وقصة مريم حين قال لها زكريا أني لك هذا قالت هو من عند الله وقصة الرجلين اللذين كانا عند النبي صلى الله عليه و سلم ثم خرجا فأضاء لهما سوطاهما وغير ذلك
وجواز ذلك في عصر النبي صلى الله عليه و سلم وغير عصره واحد وذلك أنه إذا كانت في عصر النبي للنبي صلى الله عليه و سلم على معنى التصديق له كان في غير عصره على معنى التصديق وقد كان بعد النبي صلى الله عليه و سلم لعمر بن الخطاب حين نادى سارية قال لسارية يا سارية بن حصن الجبل الجبل وعمر بالمدينة على المنبر وسارية في وجه العدو على مسيرة شهر
والأخبار في هذا كثيرة وافرة
وإنما أنكر جواز ذلك من أنكر لأن فيه زعم إبطال النبوات لأن النبي لا يظهر عن غيره إلا بمعجزة يأتي بها تدل على صدقه ويعجز عنها غيره فإذا ظهرت على يدي غيره لم يكن بينه وبين من ليس بنبي فرق ولا دليل على صدقه
قالوا وفيه تعجيز الله عن إظهار نبي عن من ليس بنبي
وقال أبو بكر الوراق النبي لم يكن نبيا للمعجزة وإنما كان نبيا بإرسال الله تعالى إياه ووحيه إليه فمن أرسله الله وأوحى إليه فهو نبي كانت معه معجزة أو لم تكن ووجب على من دعاه الرسول الإجابة له وإن لم يره معجزة وإنما كانت المعجزات لإثبات الحجة على من أنكر ووجوب كلمة العذاب على من عاند وكفر وإنما وجبت الإجابة للنبي بدعوته لأنه يدعوه إلى ما أوجب الله عليه من
توحيده ونفي الشركاء عنه وإتيان ما ليس في العقل استحالته بل وجوبه أو جوازه
والأصل في ذلك أنهما عينان نبي ومتنبي فالنبي صادق والمتنبي كاذب وهما يشتبهان في الصورة والتركيب
وأجمعوا أن الصادق يؤيده الله بالمعجزة والكاذب لا يجوز له ما يكون للصادق لأن في هذا تعجيز الله عن إظهار الصادق من الكاذب
فأما إذا كان ولي صادق وليس بنبي فإنه لا لا يدعي النبوة ولا ما هو كذب وباطل وإنما يدعو إلى ما هو حق وصدق فإن أظهر الله عليه كرامة لم يقدح ذلك في نبوة النبي ولا أوجب شبهة فيها لأن الصادق يقول ما يقوله النبي ويدعو إلى ما يدعوا إليه النبي فظهور الكرامة له تأييد لنبي وإظهار لدعوته وإلزام لحجته وتصديقه فيما يدعوه ويدعيه من النبوة وإثبات توحيد الله عز و جل
وجوز بعضهم أن يرى الله أعداءه في خاصة أنفسهم وفيما لا يوجب شبهة ما يخرج من العادات ويكون ذلك استدراجا لهم وسببا لهلاكهم وذلك انها تولد في أنفسهم تعظما وكبرياء ويرون أنها كرامات لهم استأهلوها بأعمالهم واستوجبوها بأفعالهم فيتكلون على أعمالهم ويرون لهم الفضل على الخلق فيزرون بعباده ويأمنون مكره ويستطيلون على عباده
وأما الأولياء فإنهم إذا ظهر لهم من كرامات الله شئ ازدادوا لله تذللا وخضوعا وخشية واستكانة وإزراء بنفوسهم وإيجابا لحق الله عليهم فيكون ذلك زيادة لهم في أمورهم وقوة على مجاهداتهم وشكرا لله تعالى على ما أعطاهم
فالذي للأنبياء معجزات وللأولياء كرامات وللأعداء مخادعات
وقال بعضهم إن كرامات الأولياء تجري عليهم من حيث لا يعلمون والأنبياء تكون لهم المعجزات وهم بها عالمون بإثباتها ناطقون لأن الأولياء قد يخشى عليهم الفتنة مع عدم العصمة والأنبياء لا يخشى عليهم الفتنة بها لأنهم معصومون
قالوا وكرامة الولي بإجابة عوة وتمام حال وقوة على فعل وكفاية مؤنة يقوم لهم الحق بها وهي مما يخرج عن العادات ومعجزات الأنبياء إخراج الشئ من العدم إلى الوجود وتقليب الأعيان
وجوز بعض المتكلمين وقوم من الصوفية إظهارها على الكذابين من حيث لا يعلمون وقت ما يدعونها فيما لا يوجب شبهة كما روى في قصة فرعون من جرى النيل معه وكما أخبر النبي صلى الله عليه و سلم في قصة الدجال أنه يقتل رجلا ثم يحيية فيما يخيل إليه
قالوا إنما جاز ذلك لأنهما ادعيا ما لا يوجب شبهة لأن أعيانهما تشهد على كذبهما فيما ادعياه من الربوبية
واختلفوا في الولي هل يجوز أن يعرف أنه ولي ام لا فقال بعضهم لا يجوز ذلك لأن معرفة ذلك تزيل عنه خوف العاقبة وزوال خوف العاقبة يوجب الأمن وفي وجوب المن زوال العبودية لأن العبد بين الخوف والرجاء قال الله تعالى ويدعوننا رغبا ورهبا
وقال الأجلة منهم والكبار يجوز أن يعرف الولي ولايته لأنها كرامة من الله تعالى للعبد والكرامات والنعم يجوز أن يعلم ذلك فيقتضي زيادة الشكر
والولاية ولايتان ولاية تخرج من العداوة وهي لعامة المؤمنين فهذه لا توجب معرفتها والتحقق بها للأعيان لكن من جهة العموم فيقال المؤمن ولي الله ولاية اختصاص واصطفاء واصطناع وهذه توجب معرفتها والتحقق بها
ويكون صاحبها محفوظا عن النظر إلى نفسه فلا يدخله عجب ويكون مسلوبا من الخلق بمعنى النظر إليهم بحظ فلا يفتنونه ويكون محفوظا عن آفات البشرية وإن كان طبع البشرية قائما معه باقيا فيه فلا يستحلى حظا من حظوظ النفس استحلاء يفتنه في دينه واستحلاء الطبع قائم فيه وهذه هي خصوص الولاية من الله للعبد
ومن كان بهذه الصفة لم يكن للعدو إليه طريق بمعنى الإغواء لقوله جل وعز إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وهو مع هذا ليس بمعصوم من صغيرة ولا كبيرة فإن وقع في أحديهما قارنته التوبة الخالصة
والنبي معصوم لا يجري عليه كبيرة بإجماع ولا صغيرة عند بعضهم
وزوال خوف العاقبة ليس بممتنع بل هو جائز فقد أخبر النبي صلى الله عليه و سلم أصحابه بأنهم من أهل الجنة وشهد للعشرة بالجنة والراوي له سعيد ابن زيد وهو أحد العشرة المبشرة بالجنة وشهادة النبي صلى الله عليه و سلم توجب سكونا إليها وطمأنينة بها وتصديقا لها وهذا يوجب الأمن من التغيير وزوال خوف التبديل لا محالة
والروايات التي جاءت في خوف المبشرين من قول ابي بكر رضي الله عنه يا ليتني كنت تمرة ينقرها الطير
وقول عمر رضي الله عنه ياليتني كنت هذه النبتة ليتني لم أك شيئا
وقول أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه وددت أني كبش فيذبحني أهلي ويأكلون لحمي ويحسون مرقي
وقول عائشة رضي الله عنها يا ليتي كنت ورقة من هذه الشجرة وهي من شهد لها عمار بن ياسر على منبر الكوفة فقال اشهد أنها زوجة النبي صلى الله عليه و سلم في الدنيا والآخرة
إنما كان ذلك منهم خوفا من جريان المخالفات عليهم إجلالا لله تعالى وتعظيما لقدره ووهبية له وحياء منه بأنهم أجلوا الحق أن يخالفون وإن لم يعاقبهم
كما قال عمر رضي الله عنه نعم المرء صهيب لولم يخف الله لم يعصه
يعني أن صهيبا ليس يترك المعصية لله خوف عقوبته ولكنه يتركها إجلالا له وتعظيما لقدره وحياء منه
فخوف المبشرين لم يكن خوفا من التغيير والتبديل لأن خوف التغيير والتبديل مع شهادة النبي صلى الله عليه و سلم يوجب شكا في أخبار النبي صلى الله عليه و سلم وهذا كفر ولم يكن ذلك خوف عقوبه في النار دون الخلود فيها لعلمهم بأنهم لا يعاقبون بالنار على ما يكون منهم لأنها إما أن تكون صغائر فتكون مغفورة باجتناب الكبائر أو بما يصيبهم من البلوى في الدنيا
قال عبد الله بن عمر فيما روى عن أبي بكر الصديق قال كنت عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فأنزلت هذه الآية من يعمل سوءا يجز به فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ألا أقرئك آية أنزلت على
قلت بلى يا رسول الله
قال فأقرأنيها
فلا أعلم ما أصابني إلا أني وجدت انقصاما في ظهري فتمطيت لها فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما شأنك يا أبا بكر
فقلت يا رسول الله بأبي أنت وأمي وأينا لم يعمل سوءا وإنا لمجزون بما عملنا
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أما أنت يا أبا بكر والمؤمنون فتجزون
بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله وليس لكم ذنوب وأما الآخرون فيجمع لهم ذلك حتى يجزوا به يوم القيامة
أو تكون كبائر فتقارنها التوبة لا محالة فتصح بشارة النبي صلى الله عليه و سلم لهم بالجنة
على أن هذا الحديث قد بين أنه يأتي يوم القيامة ولا ذنب له
قال النبي صلى الله عليه و سلم لعمر وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم
ولو كان كما قال بعض الناس إنهم بشروا بالجنة ولم يبشروا بأنهم لا يعاقبون فكان خوفهم من النار وإن علموا أنهم لا يخلدون فيها لكان المبشرون وغيرهم من المؤمنين في ذلك سواء لأنهم لا محالة مخرجون منها
ولو جاز دخول أبي بكر وعمر النار مع قول النبي صلى الله عليه و سلم هما سيا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين جاز دخول الحسن والحسين مع قوله هما سيدا شباب أهل الجنة
فإن كانت سادة أهل الجنة يجوز أن يدخلهم الله النار ويعذبهم بها لم يجز أن يدخل أحد الجنة إلا بعد أن يعذب بالنار
وقال النبي صلى الله عليه و سلم إن أهل الدرجات العلى ليراهم من تحتهم كما ترون النجم الطالع في أفق السماء وإن أبا بكر وعمر منهم اتعما
فإن كان هذان يدخلان النار ويخزيان فيها لأن الله تعالى قال إنك من تدخل النار فقد أخزيته فكيف بغيرهما
وقال ابن عمر إن رسول الله صلى الله عليه و سلم دخل المسجد وأبو بكر وعمر
أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله وهو آخذ بأيديهما وقال هكذا نبعث يوم القيامة
فإن جاز دخولهما النار جاز دخول الثالث
وقال النبي صلى الله عليه و سلم يدخل من أمتي الجنة سبعون ألفا بغير حساب
فقال عكاشة بن محصن الأسدي يا رسول الله ادع الله ان يجعلني منهم فقال النبي صلى الله عليه و سلم أنت منهم
وأبو بكر وعمر أفضل من عكاشة لا محالة لقول النبي صلى الله عليه و سلم هما سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين
فكيف يجوز أن يدخل عكاشة الجنة بغير حساب وهو دونهما في الفضل وهما في النار فهذا غلط كبير
فقد صح بهذه الأخبار أنهما لا يجوز أن يكونا معذبين بالنار مع شهادة الرسول صلى الله عليه و سلم لهما بالجنة فقد تبين أمنهما فمهما قيل فيهما وفي غيرهما من المبشرين كان ذلك قولا فيمن سواهما من الأولياء من جواز الأمن
وأما طريق معرفة سائر الأولياء دون المبشرين إذ كان المبشرون إنما علموا ذلك بأخبار النبي صلى الله عليه و سلم وغيرهم لم يكن فيهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فيخبرهم فإنهم إنما يعرفون بما يحدث الله فيهم من اللطائف التي يخص بها أولياءه وبما يورد على أسرارهم من الأحوال التي هي أعلام ولايته من اختصاصه لهم به وجذبه لهم مما سواه إليه وزوال العوارض عن أسرارهم وفناء الحوادث لهم والصوارف عنه إلى غيره ووقوع المشاهدات والمكاشفات التي لا يجوز أن يفعلها الله تعالى إلا بأهل خاصته ومن اصطفاه لنفسة في أزله مما لا يفعل مثلها في أسرار أعدائه
فقد ورد الخبر عن النبي صلى الله عليه و سلم في أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه لم يفضلكم بكثرة الصوم والصلاة ولكن فضلكم بشئ وقر في صدره أو في قلبه فهذا معنى الحديث
ويؤمنهم أن يجدوا في أسرارهم كرامات ومواهب وأنها على الحقيقة وليست بمخادعات كالذي كان للذي آتاه آياته فانسلخ منها ومعرفتهم أن أعلام الحقيقة لا يجوز أن يكون كأعلام الخداع والمكر لأن أعلام المخادعات تكون في الظاهر من ظهور ما خرج من العادة من ركون المخدوع بها إليها واغترارهم بها فيظنوا أنها علامات الولاية والقرب وهو في الحقيقة خداع وطرد ولو جاز أن يكون ما يفعله بأولياءه من الاختصاص كما يفعله بأعدائه من الاستدراج لجاز أن يفعل انبياءه ويلعنهم كما فعل بالذي آتاه آياته وهذا لا يجوز أن يقال في الله عز و جل ولو جاز أن يكون للأعداء أعلام الولاية وأمارات الاختصاص ويكون دلائل الولاية لا تدل عليها لم يقم للحق دليل بته وليست اعلام الولاية من جهة حلية الظواهر وظهور ما خرج من العادة لهم فقط لكن أعلامها إنما تكون في السرائر بما يحدث الله تعالى فيها مما يعلمه الله تعالى ومن يجده في سره
الباب السابع والعشرون
قولهم في الإيمان
الإيمان عند الجمهور منهم قول وعمل ونية ومعنىة النية التصديق
وروى عن رسول الله صلى الله عليه و سلم من طريق جعفر بن محمد عن آبائه عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال
الإيمان إقرار باللسان وتصديق بالقلب وعمل بالأركان قالوا أصل الإيمان إقرار اللسان بتصديق القلب وفروعه العمل بالفرائض
وقالوا الإيمان في الظاهر والباطن والباطن شئ واحد وهو القلب والظاهر أشياء مختلفة
وأجمعوا أن وجوب الإيمان ظاهرا كوجوبه باطنا وهو الإقرار غير أنه قسط جزء من أجزاء الظاهر دون جميعه ولما كان قسط الباطن من الإيمان قسط جميعه وجب أن يكون قسط الظاهر من الإيمان قسط جميعه وقسط جميعه هو العمل بالفرائض لأنه يعم جميع الظاهر كما عم التصديق جميع الباطن
وقالوا الإيمان يزيد وينقص
وقال الجنيد وسهل وغيرهما من المتقدمين منهم إن التصديق يزيد ولا ينقص ونقصانه يخرج من الإيمان لأنه تصديق بأخبار الله تعالى وبمواعيده وأدنى شك فيه كفر وزيادته من جهة القوة واليقين وإقرار اللسان لا يزيد ولا ينقص وعمل الأركان يزيد وينقص
وقال قائل منهم المؤمن اسم الله تعالى قال الله جل جلاله السلام المؤمن المهيمن وهو يؤمن المؤمن بإيمانه من عذابه والمؤمن إذا أقر وصدق وأتى بالأعمال المفترضات وانتهى عن المنهيات أمن من عذاب الله ومن لم يأت بشئ من ذلك فهو مخلد في النار والذي اقر وصدق وقصر في الأعمال فجائز أن يكون معذبا غير مخلد فهو آمن من الخلود غير آمن من العذاب فكان أمنه ناقصا غير كامل وأمن من أتى بها كلها أمنا تاما غير ناقص فوجب أن يكون نقصان أمنه لنقصان إيمانه إذ كان تمام أمنه لتمام إيمانه
وقد وصف النبي صلى الله عليه و سلم إيمان من قصر في واجب بالضعف فقال
وذلك أضعف الإيمان وهو الذي يرى المنكر فينكره بباطنه دون ظاهره فأخبر ان إيمان الباطن دون الظاهر إيمان ضعيف
ووصفه بالكمال فقال أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا والأخلاق تكون في الظاهر والباطن فما عم الجميع وصف بالكمال وما لم يعم الجميع وصف بالضعف
وقال بعضهم زيادةالإيمان ونقصانه من جهة الصفة لا من جهة العين فزيادة الإيمان من جهة الجودة والحسن والقوة ونقصانه من نقصانها لا من جهة العين
وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع وهن مريم وفاطمة وخديجة وعائشة رضي الله عنهن
ولم يكن نقصان سائر النساء من جهة أعيانهن ولكن من جهة الصفة ووصفهن أيضا بنقصان العقل والدين وفسر نقصان دينهن بتركهن الصلاة والصيام في الحيض
والدين الإسلام وهو والإيمان واحد عند من لا يرى العمل من الإيمان وسئل بعض الكبراء عن الإيمان فقال الإيمان من الله لا يزيد ولا ينقص ومن الأنبياء يزيد ولا ينقص ومن غيرهم يزيد وينقص
فمعنى قوله من الله لا يزيد ولا ينقص أن الإيمان صفة لله تعالى وهو موصوف به قال الله تعالى السلام المؤمن المهيمن وصفات الله لا توصف بالزيادة والنقصان
ويجوز ان يكون الإيمان من الله جل وعز هو الذي قسمه للعبد منه في سابق علمه لا يزيد وقت ظهوره ولا ينقص عما علمه منه وقسمه له
والأنبياء في مقام المزيد من الله تعالى من جهة القوة واليقين ومشاهدات أحوال الغيوب كما قال الله تعالى وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين
وسائر المؤمنين يزيد إيمانهم في بواطنهم بالقوة واليقين وينقص من فروعه بالتقصير في الفرائض وارتكاب المناهي
والأنبياء معصومون عن ارتكاب المناهي ومحفوظون في الفرائض عن التقصير فلا يوصفون بالنقصان في شئ من أوصافهم في حقائق الإيمان
الباب الثامن والعشرون
قولهم في حقائق الإيمان
قال بعض الشيوخ حقائق الإيمان أربعة توحيد بلا حد وذكر بلا بت وحال بلا نعت ووجد بلا وقت
معنى حال بلا نعت أن يكون وصفه حاله حتى لا يصف حالا من الأحوال الرفيعة إلا وهو بها موصوف ووجد بلا وقت أن يكون مشاهدا للحق في كل وقت
وقال بعضهم من صح إيمانه لم ينظر إلى الكون وما فيه لأن خساسة الهمة من قلة المعرفة بالله تعالى
وقال بعضهم صدق الإيمان التعظيم لله وثمرته الحياء من الله
وقيل المؤمن مشروح الصدر بنور الإسلام منيب القلب إلى ربه شهيد الفؤاد لربه سليم اللب متعوذ بربه محترق بقربه صارخ من بعده
وقال بعضهم الإيمان بالله مشاهدة ألوهيته
وقال أبو القاسم البغدادي الإيمان هو الذي يجمعك إلى الله ويجمعك بالله والحق واحد والمؤمن متوحد ومن وافق الأشياء فرفته الأهواء ومن تفرق عن الله بهواه وتبع شهوته وما يهواه فاته الحق ألا ترى أنه امرهم بتكرير العقود عند كل خطرة ونظره فقال يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله
وقال النبي صلى الله عليه و سلم الشرك أخفى في أمتي من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء
وقال النبي صلى الله عليه و سلم تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس عبد بطنه تعس عبد فرجه تعس عبد الخميصة
وسألت بعض مشايخنا عن الإيمان فقال هو أن يكون الكل منك مستجيبا في الدعوة مع حذف خواطر الانصراف عن الله بسرك فتكون شاهدا لما له غائبا عما ليس له
وسألته مرة أخرى عن الإيمان فقال الإيمان مالا يجوز إتيان ضده ولا ترك تكليفه
وفي قوله يا أيها الذين آمنوا يا أهل صفوتي ومعرفتي يا أهل قربي ومشاهدتي
وجعل بعضهم الإيمان والإسلام واحدا
وفرق بعضهم بينهما فقال من فرق بينهما الإسلام عام والإيمان خاص
وقال بعضهم الإسلام ظاهر والإيمان باطن
وقال بعضهم الإيمان تحقيق واعتقاد والإسلام خضوع وانقياد
وقال بعضهم التوحيد سر وهو تنزيه الحق عن دركه والمعرفة بر وهو
أن تعرفه بصفاته والإيمان عقد القلب بحفظ السر ومعرفة البر والإسلام مشاهدة قيام الحق بكل ما أنت به مطالب
الباب التاسع والعشرون
قولهم في المذاهب الشرعية
إنهم يأخذون لأنفسهم بالأحوط والأوثق فيما اختلف فيه الفقهاء وهم مع إجماع الفريقين فيما أمكن ويرون اختلاف الفقهاء صوابا ولا يعترض الواحد منهم على الآخر وكل مجتهد عندهم مصيب ولك من اعتقد مذهبا في الشرع وصح ذلك عنده بما يصح مثله مما يدل عليه الكتاب والسنة وكان من أهل الاستنباط فهو مصيب باعتقاده ذلك ومن لم يكن من اهل الاجتهاد اخذ بقول من أفتاه ممن سبق الى قلبه من الفقهاء انه اعلم وقوله حجة له
وأجمعوا على تعجيل الصلوات وهو الأفضل عندهم مع التيقن بالوقت ويرون تعجيل أداء جميع المفترضات عند وجوبها لا يرون التقصير والتأخير والتفريط فيها إلا لعذر
ويرون تقصير الصلاه في السفر ومن أدمن السفر منهم ولم يكن له مقر أتم الصلاة
ورأوا الفطر في السفر جائزا ويصومون
واستطاعة الحج عندهم الإمكان من أي وجه كان ولا يشترطون الزاد والراحلة فقط
قال ابن عطاء الاستطاعة اثنان حال ومال فمن لم يكن له حال يقله ولا مال يبلغه لا يجب عليه
الباب الثلاثون
قولهم في المكاسب
أجمعوا على إباحة المكاسب من الحرف والتجارات والحرث وغير ذلك مما أباحته الشريعة على تيقظ وتثبت وتحرز من الشبهات وانها تعمل للتعاون وحسم الأطماع ونية العود على الأغيار والعطف على الجار وهي عندهم واجبة لمن ربط به غيره ممن يلزمه فرضه
وسبيل المكاسب عند الجنيد على ما سبق من الشرط سبيل الأعمال المقربة إلى الله عز و جل
ويشتغل العبد بها على حسب ما يشتغل في إتيان ما ندب إليه من النوافل لا على ان بها تجلب الأرزاق وتجر المنافع
وهي عند غيره مباح للفرد ليس بواجب عليه من غير أن يقدح في توكله أو يجرح دينه
والاشتغال بوظائف الحق أولى واحق والإعرض عنه عند صحة التوكل والثقة بالله أوجب وقال سهل لا يصح الكسب لأهل التوكل إلا لاتباع السنة ولا لغيرهم إلا للتعاون
هذا ما تحققناه وصح عندنا من مذاهب القوم من أقاويلهم في كتبهم ممن ذكرنا أساميهم ابتداء وما سمعناه من الثقات ممن عرف أصولهم وتحقق مذاهبهم والذي فهمناه من رزموزهم وإشاراتهم في ضمن كلامهم قال وليس كل ذلك مسطورا لهم على حسب ما حكيناه وأكثر ما ذكرنا من العلل والاحتجاج فمن كلامنا عبارة عما حصلناه من كتبهم ورسائلهم ومن تدبر كلامهم وتفحص كتبهم علم صحة ما حكيناه ولولا أنا كرهنا الإطالة والإكثار لكنا نذكر مكان ما حكيناه من كلامهم من كتبهم نصا ودلالة إذ ليس كل ذلك مرسوما في الكتب على التصريح
ونذكر الآن بعض ما تخصصوا به من أقاؤيلهم وما استعملوه من ألفاظهم مما تفردوا به والعلوم التي عنوا بها وما يدور كلامهم عليه ونشرح بعض ما يمكن شرحه وبالله نستعين ولا حول وقوة إلا بالله العلى العظيم
الباب الحادي والثلاثون
علوم الصوفية علوم الأحوال
أقول وبالله التوفيق اعلم أن علوم الصوفية علوم الأحوال والأحوال مواريث الأعمال ولا يرث الأحوال إلا من صحح الأعمال
وأول تصحيح الأعمال معرفة علومها وهى علم الأحكام الشرعية من أصول الفقه وفروعه من الصلاة والصوم وسائر الفرائض إلى علم المعاملات من النكاح والطلاق والمبايعات وسائر ما أوجب الله تعالى وندب إليه وما لاغناء به عنه من أمور المعاش
وهذه علوم التعلم والاكتساب فأول ما يلزم العبد الاجتهاد فى طلب هذا العلم وإحكامه على قدر ما أمكنه ووسعه طبعه وقوى عليه فهمه بعد إحكام علم التوحيد والمعرفة على طريق الكتاب والسنة وإجماع السلف الصالح عليه القدر الذي يتيقن بصحة ما عليه أهل السنة والجماعة فإن وفق لما فوقه من نفى الشبه التى تعترضه من خاطر أو ناظر فذاك وإن أعرض عن خواطر السوء اعتصاما بالجملة التي عرفها وتجافى عن المناظر الذي يحاجه فيه ويجادله عليه وباعده فهو في سعة إن شاء الله عز و جل واشتغل باستعمال علمه وعمل بما علم فأول ما يلزمه علم آفات النفس ومعرفتها ورياضتها وتهذيب أخلاقها ومكائد العدو وفتنة الدنيا وسبيل الاحتراز منها وهذا العلم علم الحكمة
فإذا استقامت النفس على الواجب وصلحت طباعها وتأدبت بآداب الله عز و جل من زم جوارحها وحفظ أطرافها وجمع حواسها سهل عليه إصلاح أخلاقها وتطهير الظاهر منها والفراغ مما لها وعزوفها عن الدنيا وإعراضها عنها
فعند ذلك يمكن العبد مراقبة الخواطر وتطهير السرائر وهذا هو علم المعرفة
ثم وراء هذا علوم الخواطر وعلوم المشاهدات المكاشفات وهى التى تختص بعلم الإشارة وهو العلم الذى تفردت به الصوفية بعد جمعها سائر العلوم التى وصفناها
وإنما قيل علم الإشارة لأن مشاهدات القلوب ومكاشفات الأسرار لا يمكن العبارة عنها على التحقيق بل تعلم بالمنازلات والمواحيد ولا يعرفها إلا من نازل تلك الأحوال وحل تلك المقامات
روى سعيد بن المسيب عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا أهل المعرفة بالله فإذا نطقوا به لم ينكره إلا أهل الغرة بالله
وعن عبد الواحد بن زيد قال سألت الحسن عن علم الباطن فقال سألت حذيفة بن اليمان عن علم الباطن فقال سألت رسول الله عن علم الباطن فقال سألت جبريل عن علم الباطن فقال سألت الله عز و جل عن علم الباطن فقال هو سر من سرى أجعله فى قلب عبدى لا يقف عليه أحد من خلقى قال أبو الحسن بن أبى ذر فى كتابه منهاج الدين أنشدونا للشبلى
علم التصوف علم لا نفاد له ... علم سنى سماوى ربوبى ... فيه الفوائد للأرباب يعرفها ... أهل الجزالة والصنع الخصوصى ...
ثم لكل مقام بدء ونهاية وبينهما أحوال متفاوتة ولكل مقام علم وإلى كل حال إشارة ومع كل مقام إثبات ونفى وليس كل ما نفى فى مقام كان منفيا فيما قبله ولا كل ما أثبت فيه كان مثبتا فيما دونه
وهو كما روى عن النبى صلى الله عليه و سلم أنه قال لا إيمان لمن لا أمانة له
فنفى إيمان الأمانة لا ايمان العقد والمخاطبون أدركوا ذلك إذ كانوا قد حلوا مقام الأمانة أو جاوزوه إلى ما فوقه وكان عليه السلام مشرفا على أحوالهم فصرح لهم
فأما من لم يشرف على أحوال السامعين وعبر عن مقام فنفى فيه وأثبت جاز أن يكون فى السامعين من لم يحل ذلك المقام وكان الذى نفاه القائل مثبتا فى مقام السامع فيسبق إلى وهم السامع أنه نفى ما أثبته العلم فخطأ قائله أو بدعه وربما كفره
فلما كان الأمر كذلك اصطلحت هذه الطائفة على ألفاظ فى علومها تعارفوها بينهم ورمزوا بها فأدركه صاحبه وخفى على السامع الذى لم يحل مقامه فأما أن يحسن ظنه بالقائل فيقبله ويرجع إلى نفسه فيحكم عليها بقصور فهمه عنه أو يسوء ظنه به فيهوس قائله وينبه إلى الهذيان وهذا أسلم له من رد حق وإنكاره
قال بعض المتكلمين لأبي العباس بن عطاء ما بالكم أيها المتصوفة قد اشتققتم ألفاظا أغربتم بها على السامعين وخرجتم عن اللسان المعتاد هل هذا إلا طلب للتمويه أو ستر لعوار المذهب
فقال أبو العباس ما فعلنا ذلك إلا لغيرتنا عليه لعزته علينا كيلا يشربها غير طائفتنا ثم اندفع يقول ... أحسن ما أظهره ونظهره ... بادئ حق للقلوب نشعره ... يخبرني عني وعنه أخبره ... أكسوه من رونقه ما يستره ... عن جاهل لا يستطيع ينشره يفسد معناه إذا ما يعبره ... فلا يطبق اللفظ بل لا يعشره ... ثم يوافي غيره فيخبره ... فيظهر الجهل وتبدو زمره ... ويدرس العلم ويعفو أثره ...
وأنشدونا أيضا له ... إذا أهل العبارة ساءلونا ... أجبناهم بأعلام الإشاره ... نشير بها فنجعلها غموضا ... تقصر عنه ترجمة العباره ... ونشهدها وتشهدنا سرورا ... له في كل جارحة إثاره ... ترى الأقوال في الأحوال أسرى ... كأسر العارفين ذوي الخسارة ...
الباب الثاني والثلاثون
في التصوف ما هو
سمعت أبا الحسن محمد بن أحمد الفارسي يقول أركان التصوف عشرة
أولها تجريد التوحيد ثم فهم السماع وحسن العشرة وإيثار الإيثار وترك الاختيار وسرعة الوجد والكشف عن الخواطر وكثرة الأسفار وترك الاكتساب وتحريم الادخار
معنى تجريد التوحيد أن لا يشوبه خاطر تشبيه أو تعطيل
وفهم السماع أن يسمع بحاله لا بالعلم فقط وإيثار الإيثار أن يؤثر على نفسه غيره بالإيثار ليكون فضل الإيثار لغيره
وسرعة الوجد ان لا يكون فارغ السر مما يثير الوجد ولا ممتلئ السر مما يمنع من سماع زواجر الحق
والكشف عن الخواطر أن يبحث عن كل ما يخطر على سره فيتابع ما للحق ويدع ما ليس له
وكثرة الأسفار لشهود الاعتبار في الآفاق والأقطار
قال الله تعالى أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بذأ الخلق قيل في قوله عز و جل قل سيروا في الأرض قال بضياء المعرفة لا بظلمة النكرة ولقطع الأسباب ورياضة النفوس وترك الاكتساب لمطالبة النفوس بالتوكل وتحريم الادخار في حالة لا في واجب العلم
كما قال النبي صلى الله عليه و سلم في الذي مات من أهل الصفة وترك دينارا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم كيه
الباب الثالث والثلاثون
في الكشف عن الخواطر
قال بعض الشيوخ الخاطر على أربعة أوجه خاطر من الله عز و جل وخاطر من الملك وخاطر من النفس وخاطر من العدو
فالذي من الله تنبيه والذي من الملك حث على الطاعة والذي من النفس مطالبة الشهوة والذي من العدو تزيين المعصية فبنور التوحيد يقبل من الله وبنور المعرفة يقبل من الملك وبنور الإيمان ينهى النفس وبنور الإسلام يرد على العدو
الباب الربع والثلاثون
في التصوف والاسترسال
قال الجنيد التصوف حفظ الأوقات قال وهو أن لا يطالع العبد غير حده ولا يوافق غير ربه ولا يقارن غير وقته
وقال ابن عطاء التصوف الاسترسال مع الحق
قال أبو يعقوب السوسي الصوفي هو الذي لا يزعجه سلب ولا يتعبه طلب
قيل للجنيد ما التصوف
قال لحوق السر بالحق ولا ينال ذلك إلا بفناء النفس عن الأسباب لقوة الروح والقيام مع الحق
وسئل الشبلي لم سميت الصوفية صوفيه
قال لأنها ارتسمت بوجود الرسم وإثبات الوصف ولو ارتسمت بمحو الرسم لم يكن إلا اسم الرسم ومثبت الوصف فأحالهم على رسمومهم وأنكر أن يكون للمتحقق رسم أو وصف
قال أبو يزيد الصوفية أطفال في جحر الحق
قال أبو عبد الله النباجي مثل التصوف مثل علة البرسام في أولها هذيان فإذا تمكنت أخرست يعني أنه يعبر عن مقامه وينطق بعلم حاله فإذا كوشف تحير وسكت
سمعت فارسا يقول متى تظاهر في خواطر الهجوس على دواعي ملمات النفوس وجد السبيل إلى ترجيح الأولى فيقع النشر وأما الوصلة فإنها تحجب مو لإملاء فيكون المرجع إلى الخرس عن كل نفس
سئل النورى عن التصوف فقال نشر مقام واتصال بقوام
قيل له فما أخلاقهم قال إدخال السرور على غيرهم والإعراض عن أذاهم
قال الله تعالى خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين معنى نشر مقام هو أن يعبر عن حاله إذا عبر لا عن حال غيره بلسان العلم ومعنى اتصال بقوام هو أن يحمله حاله فى حاله عن حال غيره وأنشدونا للنورى ... أزعجتنى عن نعوت الحال بالحال ... وكيف ينعت من لا قال بالقال ... ما كل من يدعى حالا تصدقه ... حتى يترجم عنه صاحب الحال ...
ونريد أن نخبر الآن ببعض المقامات على لسان القوم من غير بسط كراهة الإطالة ونحكى من مقالات المشايخ فيها ما قرب منها إلى الأفهام دون الرموز الخفية والإشارات الدقيقة ونبدأ بالتوبة
الباب الخامس والثلاثون
قولهم فى التوبة
سئل الجنيد بن محمد عن التوبة ما هي فقال هو نسيان ذنبك وسئل سهل عن التوبة فقال هو أن لا تنسى ذنبك
فمعنى قول الجنيد أن تخرج حلاوة ذلك الفعل من قلبك خروجا لا يبقى له فى سرك أثر حتى تكون بمنزلة من لا يعرف ذلك قط وقال رويم معنى التوبة أن تتوب من التوبة معناه ما قالت رابعة أستغفر الله من قلة صدقى فى قولي أستغفر الله
سئل الحسين المغازلى عن التوبة فقال تسألني عن توبة الإنابة أو توبة الاستجابة
فقال السائل ما توبة الإنابة
قال أن تخاف من الله من أجل قدرته عليك
قال فما توبة الاستجابة
قال أن تستحى من الله لقربه منك
قال ذو النون توبة العام من الذنب وتوبة الخاص من الغفلة وتوبة الأنبياء من رؤية عجزهم عن بلوغ ما ناله غيرهم
وقال النورى التوبة أن تتوب من ذكر كل شىء سوى الله جل وعز
قال ابراهيم الدقاق التوبة أن تكون لله وجها بلا قفا كما كنت له قفا بلا وجه والله الموفق
الباب السادس والثلاثون
قولهم فى الزهد
قال الجنيد الزهد خلو الأيدى من الأملاك والقلوب من التتبع
قال على بن أبى طالب رضى الله عنه وسئل عن الزهد ما كان فقال هو أن لا تبالى من أكل الدنيا من مؤمن أو كافر
قال يحيى الزهد ترك البد
قال مسروق الزاهد الذى لا يملكه مع الله سبب سئل الشبلى عن الزهد فقال ويلكم أى مقدار لأقل من جناح بعوضة حتى يزهد فيها
قال أبو بكر الواسطى كم تصول بترك كنيف وإلى متى تصول بإعراضك ما لا يزن عند الله جناح بعوضة
وسئل الشبلى عن الزهد فقال لا زهد فى الحقيقة لأنه إما أن يزهد فيما ليس له فليس ذلك بزهد أو يزهد فيما هو له فكيف يزهد فيه وهو معه وعنده فليس إلا ظلف النفس وبذل ومواساة كأنه جعل الزهد ترك الشىء فيما ليس له وما ليس له لا يصح له تركه لأنه متروك وما هو له لا يمكنه تركه
الباب السابع والثلاثون
قولهم فى الصبر
قال سهل الصبر انتظار الفرج من الله تعالى قال وهو أفضل الخدمة وأعلاها
وقال غيره الصبر أن تصبر فى الصبر معناه أن لا تطالع فيه الفرج
قال بعضهم ... صابر الصبر فاستغاث به الصبر ... فنادى الصبور يا صبر صبرا ...
قال سهل فى قوله واستعينوا بالصبر والصلاة أى استعينوا بالله واصبروا على أمر الله واصبروا على أدب الله سبحانه
قال سهل الصبر مقدس تقدس به الأشياء قال أبو عمرو الدمشقى فى قوله تعالى مسنى الضر أى مسنى الضر فصبرنى لأنك أرحم الراحمين
وقال غيره مسنى الضر الذى تخص به أنبيائك وأوليائك بلا استحقاق منى لكن لأنك أرحم الراحمين
وقال بعضهم إنما جزع من أجله لا من أجل نفسه وذلك أن الألم استولى على بدنه فخاف زوال عقله أنشدونا لأبى القاسم سمنون ... تجرعت من حاليه نعمى وابؤسا ... زمان إذا أمضى عزاليه احتسى ... فكم غمرة قد جرعتني كؤوسها ... فجرعتها من بحر صبرى أكؤسا ... تدرعت صبرى والتحقت صروفه ... وقلت لنفسى الصبر أو فاهلكى أسا ... خطوب لو أن الشم زاحمن خطبها ... لساخت ولم تدرك لها الكف ملمسا ...
الباب الثامن والثلاثون
قولهم فى الفقر
قال أبو محمد الجريرى الفقر أن لا تطلب المعدوم حتى تفقد الموجود معناه أن لا تطلب الأرزاق إلا عند خوف العجز عن القيام بالفرض قال ابن الجلاء الفقر أن لا يكون لك فإذا كان لك لا يكون لك على معنى قوله تعالى ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة
قال أبو محمد رويم بن محمد الفقر عدم كل موجود وترك كل مفقود
وقال الكنانى إذا صح الافتقار إلى الله صح الغنى بالله لأنهما حالان لا يتم أحدهما إلا بالآخر قال النورى نعت الفقير السكون عند العدم والبذل والإيثار عند الوجود
وقال بعض الكبراء الفقير هو المحروم من الإرفاق والمحروم من السؤال لقوله عليه السلام لو أقسم على الله لأبره فدل أنه لا يقسم قال الدراج فتشت كنف أستاذى أريد مكحلة فوجدت فيه قطعة فضة فتحيرت فلما جاء قلت له إنى وجدت فى كنفك قطعة
قال قد رأيتها ردها ثم قال خذها واشتر بها شيئا
فقلت له ما كان أمر هذه القطعة بحق معبودك
قال ما رزقنى الله من الدنيا صفراء ولا بيضاء غيرها فأردت أن أوصى أن تشد فى كفنى فأردها إلى الله عز و جل
سمعت أبا القاسم البغدادى يقول سمعت الدورى يقول كنا ليلة العيد مع أبى الحسن النورى فى مسجد الشونيزى فدخل علينا إنسانا فقال للنورى أيها الشيخ غدا العيد ماذا أنت لابسه فأنشأ يقول ... قالوا غدا العيد ماذا أنت لابسه ... فقلت خلعة ساق عبده جرعا ... فقر وصبر هما ثوباى تحتهما ... قلب يرى ربه الأعياد والجمعا ... أحرى الملابس أن تلقى الحبيب بها ... يوم التزاور فى الثوب الذى خلعا ... الدهر لى مأتم إن غبت يا أملى ... والعيد مادمت لى مرأى ومستمعا ...
سئل بعض الكبراء ما الذى منع الأغنياء عن العود بفضول ما عندهم على هذه الطائفة
فقال ثلاثة أشياء أحدها أن الذى فى أيديهم غير طيب وهؤلاء خالصة الله وما اصطنع إلى أهل الله فمقبول ولا يقبل الله تعالى إلا الطيب
والثانى أنهم مستحقون فيحرم الآخرون بركة العود عليهم والثواب فيهم
والثالث أنهم مرادون بالبلاء فيمنعهم الحق عن العود عليهم ليتم مراده فيهم
سمعت فارسا يقول قلت لبعض الفقراء مرة ورأيت عليه أثر الجوع والضر لم لا تسأل الناس فيطعموك قال أخاف أن أسألهم فيمنعونى فلا يفلحوا وقد بلغنى عن النبى صلى الله عليه و سلم أنه قال لو صدق السائل ما أفلح من منعه
الباب التاسع والثلاثون
قولهم فى التواضع
سئل الجنيد عن التواضع فقال هو خفض الجناح وكسر الجانب قال رويم التواضع تذلل القلوب لعلام الغيوب
قال سهل كمال ذكر الله المشاهدة وكمال التواضع الرضا به
وقال غيره التواضع قبول الحق من الحق للحق
وقال آخر التواضع الافتخار بالقلة والاعتناق للذلة وتحمل أثقال أهل المله
الباب الأربعون
قولهم فى الخوف
قال أبوعمرو الدمشقى من يخاف من نفسه أكثر مما يخاف من العدو
قال أحمد السيد حمدويه الخائف الذى يخافه المخلوقات
قال أبو عبدالله بن الجلاء الخائف الذى تأمنه المخلوقات قال ابن خبيق الخائف الذى يكون بحكم كل وقت فوقت تخافه المخلوقات ووقت تأمنه الذى تخافه المخلوقات هو الذى غلب عليه الخوف فصار خوفا كله فيخافه كل شىء كما قيل من خاف الله خافه كل شىء والذى أمنته المخاوف هو الذى إذا طرقت المخاوف أذكاره لم تؤثر فيه لغيبته عنها بخوف الله تعالى ومن غاب عن الأشياء غابت الاشياء عنه أنشدونا ... يحرق بالنار من يحس بها ... فمن هو النار كيف يحترق ...
قال رويم الخائف الذى لا يخاف غير الله معناه لا يخافه لنفسه وإنما يخافه إجلالا له والخوف للنفس خوف العقوبة
قال سهل الخوف ذكر والرجاء أنثى معناه منهما يتولد حقائق الإيمان
وقال إذا خاف العبد غير الله ورجا الله تعالى أمن الله خوفه وهو محجوب
الباب الحادى والأربعون
قولهم فى التقوى
قال سهل التقوى مشاهدة الأحوال على قدم الانفراد معناه أن يتقى مما سوى الله سكونا إليه واستحلاء له
وفى قوله تعالى فاتقوا الله ما استطعتم أى بجميع استطاعتكم
قال سهل ما استطعتم إظهار الفقر والفاقة إليه
قال محمد بن سنجان التقوى ترك ما دون الله
قال سهل فى قوله تعالى ولكن يناله التقوى منكم قال هو التبرى وهو الاخلاص قال غيره أصل التقوى مجانية النهى ومباينة النفس فعلى قدر ما فاتهم من حظوظ أنفسهم أدركوا اليقين أنشدونا للنورى ... إنى اتقيتك لا مهابة ... من محاذرة المصير ... إنى وكيف وأنت لى ... إلف يفوق مدى السمير ... توفى السرائر سرها ... وتحوط مكنون الضمير ... لكن أجلك أن أجل ... سواك للخطر الحقير ...
الباب الثانى والأربعون
قولهم فى الاخلاص
قال الجنيد الإخلاص ما أريد به الله من أى عمل كان
قال رويم الإخلاص ارتفاع رؤيتك من الفعل
سمعت فارسا يقول قدم على أبى بكر القحطبى قوم من الفقراء من أهل خراسان فقال لهم أبوبكر بم يأمركم شيخكم يعنى أباعثمان
فقالوا يأمرنا بكثرة الطاعة مع التزام رؤية التقصير فيها فقال ويحه ألا يأمركم بالغيبة عنها برؤية مبديها
قيل لأبى العباس بن عطاء ما الخالص من الأعمال
قال ما خلص من الآفات
قال أبويعقوب السوسى الخالص من الأعمال ما لم يعلم به ملك فيكتبه ولا عدو فيفسده ولا النفس فتعجب به
معناه انقطاع العبد إلى الله جل وعز والرجوع إليه من فعله والله الموفق
الباب الثالث والأربعون
قولهم فى الشكر
قال الحارث المحاسبى الشكر زيادة الله للشاكرين
معناه إذا شكر زاده الله توفيقا فزاد شكرا
قال أبوسعيد الخزاز الشكر الاعتراف للمنعم والاقرار بالربوبية
قال أبو على الروذبارى ... لو كل جارحة منى لها لغة ... تثنى عليك بما أوليت من حسن ... لكان ما زاد شكرى إذ شكرت به ... إليك أزيد فى الإحسان والمنن ...
قال بعض الكبراء الشكر هو الغيبة عن الشكر برؤية المنعم
قال يحيى بن معاذ لست بشاكر مادمت تشكر وغاية الشكر التحير وذلك أن الشكر نعمة من الله يجب الشكر عليها وهذا لا يتناهى
أنشدونا لابى الحسن النورى ... سأشكر لا أنى لا أجازيك منعما ... بشكرى ولكن كى يقال له الشكر ... وأذكر أيامى لديك وحسنها ... وآخر ما يبقى على الشاكر الذكر ...
كان بعض الكبراء يقول فى مناجاته اللهم إنك تعلم عجزى عن مواضع شكرك فاشكر نفسك عنى
الباب الرابع والأربعون
قولهم فى التوكل
قال سرى السقطى التوكل الانخلاع من الحول والقوة وقال ابن مسروق التوكل الاستسلام لجريان القضاء فى الأحكام
قال سهل التوكل الاسترسال بين يدى الله تعالى
قال أبوعبدالله القرشى التوكل ترك الإيواء إلا إلى الله
قال أبوأيوب التوكل طرح البدن فى العبودية وتعلق القلب بالربوبية والطمأنينة إلى الكفاية
قال الجنيد حقيقة التوكل أن يكون لله تعالى كما لم يكن فيكون الله له كما لم يزل
قال أبوسعيد الخراز قامت الكفايات من السيد لأهل مملكته فاستغنوا عن مقامات التوكل عليه ليكفيهم فما أقبح التقاضى بأهل الصفاء جعل التوكل عليه لأجل الكفاية تقاضى القيام بالكفاية
كما قال الشبلى التوكل كدية حسنة
قال سهل كل المقامات لها وجه وقفا غير التوكل فإنه وجه بلا قفا يريد توكل العناية لا توكل الكفاية وهو أن لا يطالبه بالأعواض
وقال بعضهم التوكل سر بين العبد وبين الله
معناه كما قال بعض الكبراء حقيقة التوكل ترك التوكل وهو أن يكون الله لهم حيث كان لهم إذ لم يكونوا موجودين
قال بعض الكبار لإبراهيم الخواص إلى ماذا أدى بك التصوف
فقال إلى التوكل
فقال ويحك بعد أن تسعى فى عمران بطنك
معناه إن توكلك عليه لاجل نفسك احتزاز من مكروه يصيبها
الباب الخامس والأربعون
قولهم فى الرضا
قال الجنيد الرضا ترك الاختيار
قال الحارث المحاسبى الرضا سكون القلب تحت جريان الحكم
قال ذو النون الرضا سرور القلب بمر القضاء
قال رويم الرضا استقبال الأحكام بالفرح
قال ابن عطاء الرضا نظر القلب إلى قديم اختيار الله للعبد فإنه اختار له الأفضل
قال سفيان عند رابعة اللهم ارض عنى فقالت له أما تستحى أن تطلب رضا من لست عنه براض
قال سهل إذا اتصل الرضا بالرضوان اتصلت الطمأنينة فطوبى لهم وحسن مآب
يريد قوله جل وعز رضى الله عنهم ورضوا عنه
فمعناه الرضا فى الدنيا تحت مجارى الأحكام يورث الرضوان فى الآخرة بما جرت به الأقلام
قال الله تعالى وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين فهو قول الفريقين من أهل الجنة والنار من الموحدين من أهلها فإن المشركين لا يؤذن لهم فى الحمد لأنهم محجوبون
أنشدونا للنورى إن الرضا لمرارات تجرعها ... عن القنوع إذا ما استعذب الكدر ... عواقب أشهدت بعض الحضور فما ... يرعى التكثر إلا ناقة نزر ...
الباب السادس والأربعون
قولهم فى اليقين
قال الجنيد اليقين ارتفاع الشك
قال النورى اليقين هو المشاهدة قال ابن عطاء اليقين ما زالت عنه المعارضة على دوام الوقت
قال ذو النون كل ما رأته العيون نسب إلى العلم وما علمته القلوب نسب إلى اليقين
وقال غيره اليقين عين القلب
قال عبدالله اليقين اتصال البين وانفصال ما بين البين
معناه قول حارثة كأنى أنظر إلى عرش ربى بارزا اتصلت رؤيته بالغيب وارتفع ما بينه وبين الغيب من الحجب
قال سهل اليقين المكاشفة كما قال لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا وبالله التوفيق
الباب السابع والأربعون
قولهم فى الذكر
حقيقة الذكر أن تنسى ما سوى المذكور فى الذكر لقوله تعالى واذكر ربك إذا نسيت يعنى إذا نسيت ما دون الله فقد ذكرت الله
وقال النبى صلى الله عليه و سلم سبق المفردون قيل ومن المفردون يا رسول الله فقال الذاكرون كثيرا والذاكرات والمفرد الذى ليس معه غيره
وقال بعض الكبار الذكر طرد الغفلة فإذا ارتفعت الغفلة فأنت ذاكر وإن سكت
وأنشدونا للجنيد ... ذكرتك لا أنى نسيتك لمحة ... وأيسر ما فى الذكر ذكر لسانى ...
سمعت أبا القاسم البغدادى يقول سألت بعض الكبار فقلت ما بال نفوس العارفين تتبرم بالأذكار وتستروح إلى الأفكار وليس يفضي الفكر إلى مقر ولأذكارها أعواض تسر
فقال استصغرت ثمرات الأذكار فلم تحملها عن مكابداتها وبهرها شرف ما وزاء الأفكار فغيبها عن ألم مجاهداتها
معنى قوله استصغرت ثمرات الأذكار لأنها كلها حظوظ النفس والعارفون قد أعرضوا عن النفوس وحظوظها وأما أفكارهم فإنها تكون في جلال الله وهيبته ومنته وإحسانه فهي تفكر فيما لله تعالى عليها إجلالا له وتعرض عما لها عند الله حرمة له في قوله عليه السلام خبرا عن الله عز و جل من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين
معناه من شغله مشاهدة عظمتي عن ذكر لسانه لأن ذكر اللسان كله مسئلة
وأخرى أن مشاهدة العظمة تحيره فتقطعه عن الذكر له كما قال النبي صلى الله عليه و سلم لا أحصي ثناء عليك
أنشدونا للنوري
أريد دوام الذكر من فرط حبه ... فيا عجبا من غيبة الذكر في الوجد ... وإعجب منه غيبة الواجد تارة ... وغيبة عين الذكر في القرب والبعد ...
قال الجنيد من قال الله عن غير مشاهدة فهو مفترى يدل على صحة قوله قول الله تعالى قالو نشهد إنك لرسول الله ثم قال والله يشهد إن المنافقين لكاذبون
أكذبهم الله وإن كانت الكلمة صدقا لانها لم تكن عن مساهدة
وقال غيره القلب للمشاهدة واللسان للعبارة عن المشاهدة فمن عبر عن غير مساهدة فهو شاهد زور
أنشدونا لبعض الكبار ... أنت الموله لي لا الذكر ولهنى ... حاشا لقلبي أن يعلق به ذكرى ... الذكرى واسطة يحجبك عن نظرى ... أذا توشحه من خاطري فكري ...
معناه الذكر صفة الذاكر فإن غبت في ذكرى كانت غيبتي في وإنما يحجب العبد عن مشاهدة مولاه أوصافه
قال سرى السقطي صحبت زنجبيا في البرية فرأيته كلما ذكر الله تغير لونه وابيض فقلت يا هذا أرى عجبا إنك كلما ذكرت الله حالت لبستك وتغيرت صفتك فقال يا أخي أما أنك لو ذكرت الله حق ذكره لحالت لبستك وتغيرت صفتك ثم أنشأ يقول ... ذكرنا وما كنا لننسى فنذكر ... ولكن نسيم القرب يبدو فيبهر ... فأفنى به عنى وأبقى به له ... اذ الحق عنه مخبر ومعبر ...
انشدونا لابن عطاء
أرى الذكر أصنافا من الذكر حشوها ... وداد وشوق يبعثان على الذكر ... فذكرأليف النفس ممتزج بها ... يحل محل الروح في طرفها يسري ... وذكر يعزي النفس عنها لأنه ... لها متلف من حيث تدري ولا تدري ... وذكر علا منى المفارق والذرى ... يجل عن الأدراك بالوهم والفكر ... يراه لحاظ العين يالقلب رؤية ... فيجفو عليه أن يشاهد بالذكر ...
صنف الذكر أصنافا فالأول ذكر القلب وهو أن يكون المذكور غير منسي فيذكر والثاني ذكر أوصاف المذكور والثالث شهود المذكور فيفني عن الذكر لأن أوصاف المذكور تفنيك عن أوصافك فتفنى عن الذكر
الباب الثامن والأربعون
قولهم في الأنسسئل الجنيد عن الأنس ما هو
فقال الأنس إرتفاع الحشمة مع وجود الهبيبة
معنى ارتفاع الحشمة أن يكون الرجاء أغلب عليه من الخوف
وسئل ذو النون عن الأنس فقال هو انبساط المحب إلى الحبوب
معناه ما قال الخليل عليه السلام أرني كيف تحي الموتى وما قال الكليم عليه السلام أرني أنظر إليك وقوله لن تراني شبه العذر أي لا تطيق
وسئل إبراهيم المارستاني عن الأنس فقال هو فرح القلب بالمحبوب
وسئل الشبلي عن الأنس فقال هو وحشتك منه وقال ذو النون أدنى مقام الأنس أن يلقى في النار فلا يغيبه ذلك عمن أنس به
وقال بعضهم الأنس هو أن يستأنس بالأذكار فيغيب به عن رؤية الأغيار أنشدونا لرويم ... شغلت قلبي بما لديك فما ... ينفك طول الحياة من فكرى ... أنستني منك بالوداد وقد ... أوحشتني من جميع ذا البشر ... ذكرك لي مؤنس يعارضنى ... يوعدني عنك منك بالظفر ... وحيث ما كنت يامدى هممي ... فأنت مني بموضع النظر ...
الباب التاسع والأربعون قولهم في القرب
سئل سرى السقطي عن القرب فقال هوالطاعة
وقال غيره القرب أن يتدلل عليه ويتذلل له لقوله عز و جل واسجد واقترب
سئل رويم عن القرب فقال إزالة كل معترض
وسئل غيره عن القرب فقال هو أن نشاهد أفعاله بك
معناه أن ترى صنائعه ومننه عليك وتغيب فيها عن رؤية أفعالك ومجاهداتك وأخرى أن لا تراك فاعلا لقوله عز و جل للنبي صلى الله عليه و سلم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وقوله فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم
وانشدونا للنودى أراني جمعي في فنائي تقربا ... وهيهات إلا منك عنك التقرب ... فما عنك لي صبر ولا فيك حيلة ... ولا منك لي بد ولا عنك مهرب ... تقرب قوم بالرجا فوصلتهم ... فما لي بعيدا منك والكل يعطب ...
معناه أراني حالي أن جمعي بك وفنائي عما سواك تقرب إليك والجمع والفناء صفتان ولا يكون القرب منك بصفتي بل بك يكون القرب إليك منك ثم قال تقرب إليك أقوام بأفعالهم وطاعاتهم فوصلتهم تفضلا منك وليست لي أفعال أتقرب بها إليك وأنا أهلك شوقا إلى القرب منك ولا سبيل لي إليه من حيث أنا أنشدونا للنورى أيضا ... يامن أشاهده عنى فأحسبه ... مني قريبا وقد عزت مطالبه ... إذا سمت نفسي سلوة عنه ردني ... إليه شهود ليس تفنى عجائبه ...
معنى السلوة الإياس يقول كلماأيست من حيث أنا ردني عن الإياس ما منه من الفضل الذي بدا به
وقال الشبلى قد تحيرت فيك خذ بيدي يا دليلا لمن تحير فيك
الباب الخمسون
قولهم في الإتصالمعنى الإتصال أن ينفصل بسره عما سوى الله فلا يرى بسره بمعنى التعظيم غيره ولا يسمع إلا منه
قال النوري الإتصال مكاشفات القلوب ومشاهدات الأسرار مكاشفات القلوب كقول حارثة كأني أنظر إلى عرش ربي بارزا
ومشاهدات الأسرار كقوله عليه السلام اعبد الله كأنك تراه وكقول ابن عمر كنا نتراءى الله في ذلك المكان وقال بعضهم الاتصال وصول السر إلى مقام الذهول
معناه أن يشغله تعظيم الله عن تعظيم سواه
وقال بعض الكبار الاتصال أن لا يشهد العبد غير خالقه ولا يتصل بسره خاطر لغير صانعه
قال سهل حر كوا بالبلاء فتحركوا ولو سكنوا اتصلوا
الباب الحادي والخمسون
قولهم في المحبةقال الجنيد المحبة ميل القلوب
معناه أن يميل قلبه إلى الله وإلى ما الله من غير تكلف
وقال غيره المحبة هي الموافقة معناه الطاعة له فيما أمر والإنتهاء عما زجر والرضا بما حكم وقدر
قال محمد بن علي الكتاني المحبة الإيثار للمحبوب
قال غيره المحبة إثار ما تحب لمن تحب
قال أبو عبد الله النباجي المحبة لذة في المخلوق واستهلاك في الخالق معنى الإستهلاك أن لا يبقي لك حظ ولا يكون لمحبتك علة ولا تكون قائما بعلة
قال سهيل من أحب الله فهو العيش ومن أحب فلا عيش له معنى هو العيش انه يطيب عيشه لأن المحب يتلذذ بكل ما يرد عليه من المحبوب من مكروه أو محبوب ومعنى لا عيش له لأنه يطلب الوصول إليه ويخاف الإنقطاع دونه فيذهب عيشه وقال بعض الكبار المحبة لذة والحق لا يتلذذ به لأن مواضع الحقيقة دهش وإستيفاء وحيرة
فمحبة العبد لله تعظيم يحل الأسرار فلا يستجيز تعظيم سواه ومحبة الله للعبد هو أن يبليه به فلا يصلح لغيره
وهو معنى قوله تعالى واصطنعتك لنفسي
ومعنى لا يصلح لغيره أن لا يكون فيه فضل لمراقبة الأغيار ومراعاة الأحوال قال بعضهم المحبة على وجهين محبة الإقرار وهو للخاص والعام ومحبة الوجد من طريق الإصابة فلا يكون فيه رؤية النفس والخلق ولا رؤية الأسباب والأحوال بل يكون مستغرقا في رؤية ما لله ومامنه
أنشدونا لبعضهم ... أحبك حبين حب الهوى ... وحبا لأنك أهل لذاك ... فأما الذي هو حب الهوى ... فشغلي بذكرك عمن سواكا ... وأما الذي أنت أهل له ... فلست أرى الكون حتى أراكا ... فما الحمد في ذا ولا ذاك لي ... ولكن لك الحمد في ذا وذاكا ...
قال ابن عبد الصمد هي التي تعمى وتصم تعمي عما سوى المحبوب فلا يشهد سواه مطلوبا
قال النبي صلىالله عليه وسلم حبك الشيئ يعمي ويصم انشد ... أصمني الحب إلا عن تسامره ... فمن رأى حب حب يورث الصمما ... وكف طرفي إلا عن رعايته ... والحب يعمى وفيه القتل إن كتما ...
وأنشد أيضا ... فرط المحبة حال لا يقاومها ... رأى الأصيل إذا محذوره قهرا
يلذ إن عدلت منه قوارعه ... وإن تزيد في تعديله بهرا
فصل إن للقوم عبارات تفردوا بها واصطلاحات فيما بينهم لا يكاد يستعملها
غيرهم نخبر ببعض ما يحضر ونكشف معانيها بقول وجيزوإنما نقصد في ذلك إلى معنى العبارة دون ما تتضمنه العبارة فإن مضمونها لا يدخل تحت الإشارة فضلا عن الكشف وأما كنه أحوالهم فإن العبارة عنها مقصورة وهي لأربابها مشهورة
الباب الثاني والخمسون قولهم في التجريد والتفريد
فمعنى التجريد أن يتجرد بظاهره عن الأعراض وبباطنه عن الأعواض وهو ألا ياخذ من عرض الدنيا شيئا ولا يطلب على ما ترك منها عوضا من عاجل ولا آجل بل يفعل ذلك لوجوب حق الله تعالى لا لعلة غيره ولا لسبب سواه ويتجرد بسره عن ملاحظة المقامات التي يخلها والأحول التي ينازلها بمعنى السكون إليها والإعتناق لها
والتفريد أن يتفرد عن الأشكال وينفرد في الأحوال ويتوحد في الأفعال وهو أن تكون أفعاله لله وحده فلا يكون فيها رؤية نفس ولا مراعاة خلق ولا مطالعة عوض ويتفرد في الأحوال عن الأحوال فلا يرى لنفسه حالا بل يغيب برؤية محولها عنها ويتفرد عن الأشكال فلا يأنس بها ولا يستوحش منها
وقيل التجريد أن لا يملك والتفريد أن لا يملك
أنشدونا لعمرو بن عثمان المكي ... تفرد بالله الفريد فريد ... فظل وحيدا والمشوق وحيد وذاك لأن المفردين رأيتهم ... على طبقات والدنو بعيد ... فمن مفرد يسمو بهمة قلبه ... عن الملك جمعا فهو عنه يحيد ... وأدمن سيرا في السمو توحدا ... وكل وحيد بالبلاء فريد ... وآخر يسمو في العلو تفردا ... عن النفس وجدا فهي منه تبيد ... وآخر مفكوك من الأسر بالفنا ... فأصبح خلوا واجتباه ودود ...
فالذي أدمن سيرا في السمو متوحد بالبلاء لأنه لا سبيل له إلى ما يطلب ولا يساكن شيئا دونه والذي تفرد عن النفس وجدا فلا يحس بالبلاء والذي فك من أسر النفس بالفناء عنها هو المجتبي المقرب المتفرد بالحقيقة
الباب الثالث والخمسون قولهم في الوجد
ومعنى الوجد هو ما صادف القلب من فزع أو غم أو رؤية معنى من أحوال الآخرة أو كشف حالة بين العبد الله عز و جل
قالوا وهو سمع القلوب وبصرها قال الله تعالى فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور
وقال أو ألقى السمع وهو شهيد
فمن ضعف وجده تواجد والتواجد ظهور ما يجد في باطنه على ظاهره ومن قوى تمكن فسكن
قال الله تعالى تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله قال النوري الوجد لهيب ينشأ في الأسرار ويسنح عن الشوق فتضطرب الجوارح طربا أو حزنا عند ذلك الوارد
وقالوا الوجد مقرون بالزوال والمعرفة ثابتة بالله تعالى لا تزول
أنشدونا للجنيد ... الوجد يطرب من في الوجد راحته ... والوجد عند حضور الحق مفقود ... قد كان يطربني وجدي فاشغلني ... عن رؤية الوجد مافي الوجد موجود ...
وأنشدونا لبعض الكبار ... أبدى الحجاب فذل في سلطانه ... عز الرسوم وكل معنى يحضر ... هيهات يدرك بالوجود وإنما ... لهب التواجد رمز عجز يقهر ... لا الوجد يدرك غير رسم داثر ... والوجد بدثر حين يبدو المنظر ... قد كنت أطرب للوجود مروعا ... طور يغيبني وطورا أحضر ... أفنى الوجود بشاهد مشهوده ... أفنى الوجود وكل معنى يذكر ...
وقال بعضهم الوجد بشارات الحق بالترقي إلى مقامات مشاهاته وأنشدونا لبعضهم ... من جاد بالوجد أحرى أن يجود بما ... يفنى الوجود من الأفضال والمنن ... أيقنت حين بدا بالوجد يبعثني ... إن الجواد به يوفي على الحسن ...
وللشبلي ... الوجد عندي جحود ... مالم يكن عن شهودي ... وشاهد الحق عندي ... يفني شهود الوجود ...
الباب الرابع والخمسون قولهم في الغلبة
الغلبة حال تبدو للعبد لا يمكنه معها ملاحظة السبب ولا مراعاة الادب ويكون مأخوذا عن تمييز ما يستقبله فربما خرج إلى بعض ما ينكر عليه من لم يعرف حاله ويرجع على نفسه صاحبه إذا سكنت غلبات ما يجده ويكون الذي غلب عليه خوف أو هيبة أو إجلال أو حياء أو بعض هذه الأحوال
كما جاء في الحديث عن أبي لبابة بن عبد المنذر حين إستشاره بنو قريظة لما استنزلهم النبي صلى الله عليه و سلم على حكم سعد بن معاذ فأشار بيده إلى حلقة أنه ذبح ثم ندم على ذلك وعلم أنه قد خان الله ورسوله فانطلق على وجهه حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده وقال لا أبرح مكاني هذا حتى يتوب الله علي مما صنعت
فهذا لما غلب عليه الخوف من الله عز و جل حال بينه وبين أن يأتي رسول الله صلى الله عليه و سلم وكان هو الواجب عليه لقول الله عز و جل ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول الآية
وليس في الشريعة ارتباط بالسواري والعمد
وقال النبي صلى الله عليه و سلم لما أن استبطاه أما لو جاءني لإستغفرت له فأما إذ فعل ما فعل فماأنا بالذي اطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه فلما علم الله صدقه وأن ذلك صدر عنه لغلبة الخوف عليه غفر له فأنزل الله توبته فأطلقه النبي صلى الله عليه و سلم
فأبو لبابة رضي الله عنه لما أن غلب عليه الخوف لم يمكنه ملاحظة السبب وهو استغفار الرسول صلى الله عليه و سلم لقوله تعالى ولوأنهم إذ ظلموا أنفسهم الآية ولم يمكنه مراعاة الأدب والأدب أن يعتذر إلى من أذنب إليه وهو الرسول صلى الله عليه و سلم
وكما غلب على عمر رضي الله عنه حمية الدين حين اعترض على رسول الله صلى الله عليه و سلم لما أراد أن يصالح المشركين عام الحديبية فوثب عمر حتى أتى أبا بكر رضي الله عنه فقال يا أبا بكر أليس هذا برسول الله
قال بلى
قال ألسنا بالمسلمين
قال بلى
قال أليسوا بالمشركين
قال بلى
قال فعلام نعطي الدنية في ديننا
فقال أبو بكر يا عمر إلزم غرزه فإني أشهد أنه رسول الله
فقال عمر وأنا أشهد أنه رسول الله ثم غلب عليه ما يجد حتى أتى رسول الله صلى الله عليه فقال له مثل ما قال لأبي بكر وأجابه النبي صلى الله عليه و سلم كما أجابه أبو بكر حتى قال أنا اعبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني
فكان عمر يقول فما زلت اصوم وأتصدق وأعتق وأصلي من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمت به حتى رجوت أن يكون خيرا
وكاعتراضه على النبي صلىالله عليه وسلم أيضا حين صلى على عبد الله ابن ابي قال عمر فتحولت حتى قمت في صدره وقلت يا رسول الله أتصلي على هذا وقد قال يوم كذا كذا يعدد أياما له حتى قال له أخر عني يا عمر إني خيرت فاخترت وصلى عليه فقال عمر فعجب لي وجرأتي على رسول الله
ومنه حديث أبي طيبة حين حجم النبي صلى الله عليه و سلم فشرب دمه وذلك محظور في الشريعة ولكن فعله في حال الغلبة فعذره النبي صلى الله عليه و سلم وقال لقد احتظرت بحظائر من النار
فهذه كلها وأمثالها كثيرة تدل على أن حالة الغلبة حالة صحيحة ويجوز فيها ما لا يجوز في حال السكون ويكون الساكن فيها بما هو أرفع منه في الحال أمكن وأتم حالة كما كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه
الباب الخامس والخمسون
قولهم في السكروهو أن يغيب عن تمييز الأشياء ولا يغيب عن الأشياء وهوأن لا يميز بين مرافقة وملاذه وبين اضدادها في مرافقة الحق فإن غلبات وجود تسقطه عن المييز بين ما يؤلمه ويلذه
كما روي في بعض الروايات في حديث حارثة أنه قال استوى عندي حجرها ومدرها وذهبها وفضتها
وكما قال عبد الله بن مسعود ما أبالي على أي الحالين وقعت على غنى أو فقر إن كان فقرا فإن فيه الصبر وإن كان غنى فإن فيه الشكر
ذهب عنه التمييز بين الأرفق وضده وغلب عليه رؤية ما للحق من الصبر والشكر
وأنشد بعضهم ... قد استولى على قلبي هواك ... ومالي في فؤادي من سواك ... فلو قطعتني في الحب إربا ... لما حن الفؤاد إلى سواك والصحو الذي هو عقيب السكر هو أن يميز فيعرف المؤلم من الملذ فيختار المؤلم في موافقة الحق ولا يشهد الألم بل يجد لذة في المؤلم
كما جاء عن بعض الكبار أنه قال لو قطعني البلاء إربا إربا ما ازددت لك إلا حبا حبا
وعن أبي الدرداء أنه قال أحب الموت اشتياقا إلى ربي وأحب المرض تكفيرا لخطيئتي وأحب الفقر تواضعا لربي
وعن بعض الصحابة أنه قال يا حبذا المكروهان الموت والفقر
وهذه الحالة أتم لأن صاحب السكر يقع علىالمكروه من حيث لا يدري
ويغيب عن وجود التكره وهذا يختار الآلام على الملاذ ثم يجد اللذة فيما يؤلمه بغلبة شهود فاعله
والصاحي الذي نعته قبل نعت السكر ربما يختار الالام على الملاذ لرؤية ثواب أو مطالعة عوض وهو متألم في الآلام ومتلذذ في الملاذ فهو نعت الصحو والسكر وأنشدونا لبعض الكبار ... كفاك بأن الصحو أوجد أنني ... فكيف بحال السكر والسكر أجدر 5 ... فحالاك لي حالان صحو وسكره ... فلا زلت في حالي أصحو وأسكر ...
معناه أن حالة التمييز إذا أسقط عني مالي وأوجد مالك فكيف يكون حاله السكر وهو سقوط التميز عني ويكون الله هو الذي يصرفني في وظائفي ويراعيني في أحوالي وهاتان حالتان تجريان علي وهما لله تعالى لا لي فلا زلت في هاتين الحالتين ابدا
الباب السادس والخمسون
قولهم في الغيبة والشهودفمعنى الغيبة أن يغيب عن حظوظ نفسه فلا يراها وهى اعنى الحظوظ قائمة معه موجودة فيه غير أنه عنها بشهود ما للحق
كما قال أبو سليمان الداراني وبلغه أنه قيل للاوزاعي رأينا جاريتك الزرقاء في السوق فقال أو زرقاء هى
فقال سليمان انفتحت عيون قلوبهم وانطبقت عيون رؤوسهم
أخبر أن غيبته عن رزقتها كانت مع بقاء لذة الحور فيه بقوله أو زرقاء هى
والشهود أن يرى حظوظ نفسه
ومعنى ذلك أن يأخذ ما يأخذ بحال العبودية وخضوع البشرية لا للذة والشهوة
وغيبة أخرى وراء هذه وهى أن يغيب عن الفناء والفاني بشهود البقاء والباقي لا غير كما أخبر حارثة عن نفسه ويكون الشهود شهود عيان ويكون غيبته عما غاب غيبة شهود الضر والنفع لا غيبة استتار واحتجاب
وأنشدونا للنورى ... شهدت ولم أشهد لحاظا لحظته ... وحسب لحاظ شاهد غير مشهد ... وغبت مغيبا غاب للغيب غيبه ... فلاح ظهور غيبه غير مفقد ...
وعبر عن الشهود بعض مشائخنا فقال الشهود أن تشهد ما تشهد مستصغرا له معدوم الصفة لما غلب عليك من شاهد الحق كما جاء ... ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... وكل نعيم لا محالة زائل وكما قال موسى عليه السلام إن هى ألا فتنتك رأى السامرى معدوم الصفة في شهود الحق وأنشدونا للنورى ... تسترت عن دهرى بستر همومه ... محيرة في قدر من جل عن قدرى ... فلا الدهر يدرى أننى عنه غائب ... ولا أنا أدري بالخطوب إذا تجرى ... إذا كان كلى قائما بوفائه ... فلست أبالي ما حييت يد الدهر ...
الباب السابع والخمسون
قولهم في الجمع والتفرقةأول الجمع جمع الهمة وهو أن تكون الهموم كلها هما واحدا
وفي الحديث من جعل الهموم هما واحدا هم المعاد كفاه الله سائر همومه ومن تشعبت به الهموم لم يبال الله في أي أوديتها هلك
وهذه حال المجاهدة والرياضة
والجمع الذي يعنيه أهله هو أن يصير ذلك حالا له وهو أن لا تتفرق همومه فيجمعها تكلف العبد بل تجتمع الهموم فتصير بشهود الجامع لها هما واحدا ويحصل الجمع إذ كان بالله وحده دون غيره
والتفرقة التى هي عقيب الجمع هو أن يفرق بين العبد وبين همومه في حظوظه وبين طلب مرافقه وملاذه فيكون مفرقا بينه وبين نفسه فلا تكون حركاته لها وقد يكون المجموع ناظرا إلى حظوظه في بعض الاحوال غير أنه ممنوع منها قد حيل بينه وبينها لا يتأتى له منها شيء وهو غير كاره لذلك بل مريد له لعلمه بأنه فعل الحق به واختصاصه له وجذبه إياه مما دونه
سئل بعض الكبار عن الجمع ما هو فقال جمع الاسرار بما ليس منه بد وقهرها فيه اذ لا شبه له ولا ضد
وقال غيره جمعهم به حين وصلهم بالقصور عنه وفرقهم عنه حين طلبوه بما منهم فسنح التشتيت لارتياده بالاسباب وحصل الجمع حين شاهدوه في كل باب
قالتفرقة التى عبر عنها هي التي قبل الجمع معناه أن التقرب إليه بالاعمال تفرقه وإذا شاهدوه مقربا لهم فهو الجمع
أنشدونا لبعض الكبار ... الجمع أفقدهم من حيث هم قدما ... والفرق أوجدهم حينا بلا أثر ... فاتت نفوسهم والفوت فقدهم ... في شاهد جمعوا فيه عن البشر ... وجمعهم عن نعوت الرسم محوهم ... عما يؤثره التلوين بالغير ... والحين حال تلاشت في قديمهم ... عن شاهد الجمع إضمار بلا صور ... حتى توافى لهم في الفرق ما عطفت ... عليهم منه حين الوقت في الحضر ... فالجمع غيبتهم والفرق حضرتهم ... والوجد والفقد في هذين بالنظر ...
معنى قوله الجمع أفقدهم من حيث هم أى علمهم بوجودهم للحق في علمه بهم أفقدهم من الحين الذي صاروا موجودين له فجعل الجمع حالة العدم حيث لم يكن إلا علم الحق بهم والفرق حالة ما أخرجهم من العدم إلى الوجود
قوله فاتت نفوسهم أي رأوها حين الوجود كما كانوا إذ هم فقود لا يملكون لانفسهم ضرا ولا نفعا ولا يتغير علم الله فيهم
وجمعهم هو أن يمحوهم عن نعوت الرسم وهي أفعالهم وأوصافهم في أنها لا تؤثر أثر تلوين وتغيير بل تكون على ما علم الله جل وعز وقدر وحكم فتلاشت حالهم حين وجودهم في قديم العلم إذ كانوا معدمين لا موجودين مصورين وإذا أوجدهم أجرى عليهم ما سبق لهم منه
فالجمع أن يغيبوا عن حضورهم وشهودهم إياهم متصرفين
والفرق أن يشهدوا أحوالهم وأفعالهم
والوجد والفقد حالتان متغايرتان لهم لا للحق تعالى
قال أبو سعيد الخراز معنى الجمع أنه أوجدهم نفسه في أنفسهم بل أعدمهم وجودهم لانفسهم عند وجودهم له
معناه قوله كنت له سمعا وبصرا ويدا فبى يسمع وبي يبصر الخبر
وذلك أنهم كانوا يتصرفون بأنفسهم لا لأنفسهم فصاروا متصرفين للحق بالحق
الباب الثامن والخمسون
قولهم في التجلي والاستتارقال سهل التجلي على ثلاثة أحوال
تجلي ذات وهي المكاشفة وتجلي صفات الذات وهي موضع النور وتجلى حكم الذات وهي الآخرة وما فيها
معنى قوله تحلى ذات وهي المكاشفة كشوف القلب في الدنيا كقول عبد الله بن عمر كنا نتراءى الله في ذلك المكان يعني في الطواف وقال النبي صلى الله عليه و سلم اعبد الله كأنك تراه وكشوف العيان في الآخرة
ومعنى قوله تجلى صفات الذات وهي موضع النور هو أن تتجلى له قدرته عليه فلا يخاف غيره وكفايته له فلا يرجو سواه
وكذلك جميع الصفات كما قال حارثة كأني أنظر إلى عرش ربي بارزا كأنه تجلى له كلامه في أخباره فصار الخبر له كالمعاينة
وتحلى حكم الذات يكون في الآخرة فريق في الجنة وفريق في السعير
قال بعض الكبار علامة تجلى الحق للاسرار هو أن لا يشهد السر ما يتسلط عليه التعبير أو يحويه الفهم فمن عبر أو فهم فهو خاطر استدلال لا ناظر إجلال معناه أن يشهد ما لا يمكنه العبارة عنه أي التعبير عنه لانه لا يشهد إلا تعظيما وهيبة فيمنعه ذلك عن تحصيل ما شاهد من الحال وأنشدونا لبعضهم ... إذا ما بدت لي تعاظمتها ... فأصدر في حال من لم يرد ... أجده إذا غبت عني به ... وأشهد وجدي له قد فقد ... فلا الوصل يشهدني غيره ... ولا أنا أشهده منفرد ... جمعت وفرقت به عني ... ففرد التواصل مثنى العدد ...
معناه إذا بدت الحقيقة غلب على التعظيم فأغيب في شاهد التعظيم عن شهود التحصيل فأكون كمن لم يبد له وإنما يكون وجودي له إذا غبت عني وإذا غبت فقد وجودي فحالة الوصل الذي هو فنائي عني لا يشهدني غيره وحالة الانفراد وقيامي بصفتي يغييبني عن شهوده فكأن جمعي به فرقني عني فيكون حالة الوصل هو أن يكون الله عز و جل مصرفي فلا أكون أنا في أفعالي فهو الله تعالى لا أنا
كما قال الله تعالى لنبيه وما رميت اذ رميت ولكن الله رمى
وهذا لسان الحال ولسان العلم أن الله مصرفي وأنا به متصرف فيكون المعبود والعبد
وقال بعضهم التجلي رفع حجبة البشرية لا أن تتلون ذات الحق جل وعز عن ذلك وعلا
والاستتار أن تكون البشرية حائلة بينك وبين شهود الغيب
ومعنى رفع حجبة البشرية أن يكون الله تعالى يقيمك تحت موارد ما يبدو لك من الغيب لان البشرية لا تقاوم أحوال الغيب
والاستتار الذي يعقب التجلي هو أن تستتر الاشياء عنك فلا تشاهدها
كقول عبد الله بن عمر للذي سلم عليه وهو في الطواف فلم يرد عليه فشكاه فقال إنا كنا نتراءى الله في ذلك المكان أخبر عن تجلى الحق له بقوله كنا نتراءى الله وأخبر عن الاستتار بغيبته عن التسليم عليه
وأنشدنا لبعض الكبار ... سرائر الحق لا تبدو لمحتجب ... أخفاه عنك فلا تعرض مخيفه ... لا تعن نفسك فيما لست تدركه ... حاشا الحقيقة أن تبدو فتؤويه ...
الباب التاسع والخمسون
قولهم في الفناء والبقاءفالفناء هو أن يفنى عنه الحظوظ فلا يكون له في شيء من ذلك حظ ويسقط عنه التمييز فناء عن الاشياء كلها شغلا يما فنى به كما قال عامر بن عبد الله ما أبالي امرأة رأيت أم حائطا
والحق يتولى تصريفه فيصرفه في وظائفه وموافقاته فيكون محفوظا فيما لله عليه مأخوذا عما له وعن جميع المخالفات فلا يكون له إليها سبيل وهو العصمة وذلك معنى قوله صلى الله عليه و سلم كنت له سمعا وبصرا الخبر
والبقاء الذي يعقبه هو أن يفنى عما له ويبقى بما لله
قال بعض الكبار البقاء مقام النبيين ألبسوا السكينة لا يمنعهم ما حل بهم عن فرضه ولا عن فضله
ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء
والباقي هو أن تصير الاشياء كلها له شيئا واحدا فتكون كل حركاته في موافقات الحق دون مخالفاته فيكون فانيا عن المخالفات باقيا في الموافقات وليس معنى أ تصير الاشياء كلها له شيئا واحدا أن تصير المخالفات له موافقات فيكون ما نهى عنه كما أمر به ولكن على معنى أن لا يجري عليه إلا ما أمر به وما يرضاه الله تعالى دون ما يكرهه ويفعل ما يفعل لله لا لحظ له فيه في عاجل أو آجل
وهذا معنى قولهم يكون فانيا عن أوصافه باقيا بأوصاف الحق لان الله تعالى إنما يفعل الاشياء لغيره لا له لانه لا يجر به نفعا ولا يدفع به ضرا تعالى الله عن ذلك وإنما يفعل الاشياء لينفع الاغيار أو يضرهم
فالباقي بالحق الفاني عن نفسه يفعل الاشياء لا لجر منفعة إلى نفسه ولا لدفع مضرة عنها بل على معنى أنه لا يقصد في فعله جر المنفعة ودفع المضرة قد سقطت عنه حظوظ نفسه ومطالبة منافعها بمعنى القصد والنية ولا بمعنى أنه لا يجد حظا فيما يعمل مما لله عليه يفعله لله لا لطمع ثواب ولا لخوف عقاب وهما أعنى الخوف والطمع باقيان معه قائمان فيه غير أنه يرغب في ثواب الله لموافقة الله تعالى لانه رغب فيه وأمر أن يسأل ذلك منه ولا يفعله للذة نفسه ويخاف عقابه إجلالا له وموافقة له لانه خوف عباده ويفعل سائر الحركات لحظ الغير لالحظ نفسه كما قيل المؤمن يأكل بشهوة عياله
أنشدونا لبعضهم ... أفناه عن حظه فيما ألم به ... فظل يبقيه في رسم ليبديه ... ليأخذ الرسم عن رسم يكاشفه ... والسر يطفح عن حق يراعيه ...
فجملة الفناء والبقاء أن يفنى عن حظوظه ويبقى بحظوظ غيره
فمن الفناء فناء عن شهود المخالفات والحركات بها قصدا وعزما وبقاء في شهود الموافقات والحركات بها قصدا وفعلا وفناء عن تعظيم ما سوى الله وبقاء في تعظيم الله تعالى
ومن فناء تعظيم ما سوى الله حديث ابي حازم حيث قال ما الدنيا أما ما مضى فأحلام وأما ما بقي فأمان وغرور وما الشيطان حتى يهاب منه لقد أطيع فما نفع وعصى فما ضر فكان كأنه لا دنيا عنده ولا شيطان
ومن فناء الحظوظ حديث عبد الله بن مسعود حيث قال ما علمت أن في أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم من يريد الدنيا حتى قال الله منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة الآية فكان فانيا عن إرادة الدنيا
ومن ذلك حديث حارثة قال عزفت نفسي عن الدنيا فكأني أنظر الى عرش ربي بارزا فنى عن العاجلة بالآجلة وعن الاغيار بالجبار
وحديث عبد الله بن عمر سلم عليه إنسان وهو في الطواف فلم يرد عليه وشكاه إلى بعض أصحابه فقال عبد الله إنا كنا نتراءى الله في ذلك المكان
ومنها حديث عامر بن عبد القيس قال لأن تختلف في الأسنة أحب إلي من أن أجد ما تذكرون يعني في الصلاة حتى قال الحسن ما اصطنع الله ذلك عندنا
وفناء هو الغيبة عن الاشياء رأسا
كما كان فناء موسى عليه السلام حين تجلى ربه للجبل فخر موسى صعقا فلم يخبر في الثاني من حاله عن حاله ولا أخبر عنه مغيبه به عنها
وقال أبو سعيد الخزاز علامة الفاني ذهاب حظه من الدنيا والآخرة إلا من الله تعالى ثم يبدو باد من قدرة الله تعالى فيريه ذهاب حظه من الله تعالى إجلالا لله ثم يبدو له باد من الله تعالى فيريه ذهاب حظه من رؤية ذهاب حظه ويبقى
رؤية ما كان من الله لله ويتفرد الواحد الصمد في أحديته فلا يكون لغير الله مع الله فناء ولا بقاء
معنى ذهاب حظه من الدنيا مطالبة الاعراض ومن الاخرة مطالبة الاعواض فيبقى حظه من الله وهو رضاه عنه وقربه منه ثم يرد عليه حالة من إجلال الله تعالى أن يقرب مثله أو يرضى عن مثله استحقارا لنفسه وإجلالا لربه ثم ترد عليه حالة فيستوفيه حق الله تعالى فيغيبه عن رؤية صفته التي هي رؤية ذهاب حظه فلا يبقى فيه إلا ما من الله إليه ويفنى عنه ما منه الى الله فيكون كما كان إذ كان في علم الله تعالى قبل أن يوجده وسبق له منه ما سبق من غير فعل كان منه
وعبارة أخرى عن الفناء أن الفناء هو الغيبة عن صفات البشرية بالحمل الموله من نعوت الالهية وهو أن يفنى عنه أوصاف البشرية التي هي الجهل والظلم لقوله تعالى وحملها الانسان إنه كان ظلوما جهولا ومن أوصافه الكنود والكفور وكل صفة ذميمة تفنى عنه بمعنى أن يغلب علمه جهله وعدله ظلمه وشكره كفرانه وأمثالها
قال أبو القاسم فارس الفناء حال من لا يشهد صفته بل يشهدها مغمورة بمغيبها
وقال فناء البشرية ليس على معنى عدمها بل على معنى أن تغمد بلذة توفى على رؤية الالم واللذة الجارية على العبد في الحال كصواحبات يوسف عليه السلام قطعن أيديهن لفناء أوصافهم ولما ورد على أسرارهن من لذة النظر إلى يوسف مما غيبهم عن ألم ما دخل عليهن من قطع أيديهن
ولبعض أهل العصر
غابت صفات القاطعات أكفها ... في شاهد هو في البرية أبدع ... ففنين عن أوصافهن فلم يكن ... من نعتهن تلذذ وتوجع ... وقيام ارمرأه العزيز بيوسف ... يد نفسه ما كان يوسف يقطع ...
وأنشدونا في الفناء ... ذكرنا وما كنا لننسى فنذكر ... ولكن نسيم القرب يبدو فيبهر ... فأفنى به عنى وأبقى به له ... إذا الحق عنه مخبر وعبر ...
ومنهم من جعل هذه الأحوال كلها حالا واحدة وإن اختلفت عباراتها فجعل الفناء بقاء والجمع تفرقة وكذلك الغيبة والشهود والسكر والصحو
وذلك أن الفاني عماله باق بما للحق والباقي بما للحق فإن عماله والمفارق مجموع لأن لا يشهد إلا الحق والمجموع مفارق لأنه لا يشهد إياه ولا الخلق وهو باق لدوامه مع الحق وهو جامعه به وهو فان عما سواه مفارق لهم وهو غائب سكران لزوال التمييز عنه ومعنى زوال التمييز عنه هو ما قلناه بين الآلام والملاذ وبمعنى أن الأشياء تتوحد له فلا يشهد مخالفة إذ لا يصرفه الحق إلا في موافقاته وإنما تميز بين الشيئ وغيره فإذا صارت الأشياء شيئا واحدا سقط التمييز
وعبر جماعة عن الفناء بأن قالوا يؤخذ العبد من كل رسم كان له وعن كل مرسوم فيبقى في وقته بلا بقاء يعلمه ولا فناء يشعر به ولا وقت يقف عليه بل يكون خالقه عالما ببقائه وفنائه ووقته وهو حافظ له عن كل مذموم
واختلفوا في الفاني هل يرد إلى بقاء الأوصاف أم لا
قال بعضهم يرد الفاني إلى بقاء الأوصاف وحالة الفناء لا تكون على الدوام لأن دوامها يوجب تعطيل الجوارح عن أداء المفروضات وعن حركتها في أمور معاشها ومعادها
ولأبي العباس بن عطاء في ذلك كتاب سماه كتاب عودة لصفات وبدئها وأما الكبار منهم والمحققون فلم يروا رد الفاني إلى بقاء الأوصاف منهم الجنيد والخراز والنوري وغيرهم
قالفناء فضل من الله عز و جل وموهبة العبد وإكرام منه له واختصاص له به
وليس هو من الأفعال المكتسبة وإنما هو شيئ يفعله الله عز و جل بمن اختصه لنفسه واصطنعه له فلو رده إلى صفته كان في ذلك سلب ما أعطى واسترجاع ما وهب وهذا غير لائق باله عز و جل أو يكون من جهة البداء والبداء صفة من استفات العلم وهذا من الله عز و جل منفي أو يكون ذلك غرورا وخداعا والله تعالى لا يوصف بالغرور ولا يخادع المؤمنين وإنما يخادع المنافقين والكافرين
وليس مقام الفناء يدرك بالاكتساب فيجوز أن يكتسب ضده فإن عورض بالإيمان والرجوع عنه وهو أفضل المراتب وبه يدرك جميع المقامات أجيب عنه أن الإيمان الذي يجوز الرجوع عنه هو الذي اكتسبه العبد من إقرار لسانه والعمل بأركانه ولم يخامر الإيمان حقيقة سره لا من قبل الشهود ولا من صحة العقود لكنه أقر بشيئ وهو لا يدري حقيقة ما أقر به
كما جاء في الحديث إن الملك يأتي العبد إذا وضع في لحده فيقول ما قولك في هذا الرجل
فيقول سمعت الناس يقولون شيئا فقلته
فهذا شاك غير متقين
أو يكون أقر بلسانه وانطوى على تكذيبه كالمناطق الذي اقر بلسانه وكذبه بقلبه واضمر خلافه ولكنه أقر بلسانه ولم يكذبه بقبه ولا اضمر خلافه ولكن لم
يقع له صحة ما أقر به اكتسابا ولا مشاهدة لم يكتسب تحقيقه من جهة العلم فتقوم له الدلائل على صحته ولا شاهد بقبه حالا أزال عنه الشكوك وقد سبق له من الله الشقاء فاعترضت له شبهة من خاطر أو ناظر ففتنته فانتقل عنه إلى ضده
فأما من سبق له من الله الحسنى فإن الشبهات لا تقع له والعوارض تزول عنه إما اكتسابا من علم الكتاب والسنة ودلائل العقل فيزيل خواطر السوء عنه وترد شبهات الناظر له إذ لا يجوز أن يكون لما خالف الحق دلائل الحق فهذا لا تعترضه الشكوك
أو يكون ممن قد وقع له صحة الإيمان ويرد الله تعالى عنه خواطر السوء باعتصامه بالجملة ويرد عنه الله الناظر المشكك له لطفا به فلا يقابله فيسلم له صحة إيمانه وإن لم يكن عنده من البيان ما يحتاج مناظرة ناظره ولا ما يزيل خاطره
أو يكون ممن وقع له صحة ما أقر به شهودا أو كشوفا كما أخبر حارثة عن نفسه من شهوده ما أقر به حتى حل ما غاب عنه من ذلك محل ما حضر وأكثر لأنه أخبر أنه عزف عن الشاهد فصار الغيب له شهودا والشاهد غائبا كما قال الداراني انفتحت عيون قلوبهم فانطبعت عيون رؤوسهم
فمن وقع له صحة ماأقر به من هذه الجهة لم يرجع عن الاخرة إلى الدنيا ولا ترك الأولى للأدنى
وهذا كله أسباب العصمة من الله له وتصديق ما وعد بقوله تعالى يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياةالدنيا وفي الآخرة
فقد صح أن المؤمن الحقيقي لا ينتقل عن الإيمان لأنه موهبة له من الله جل وعز وعطاء وفضل واختصاص وحاشا الحق عز و جل أن يرجع فيما وهب أو يسيرد ما أعطى
وصورة الإيمان الحقيقي والرسمي في الظاهر صورة واحدة وحقائقها مختلفة فأما الفناء وغيره من مقامات الإختصاص فإن صورها مختلفة وحقائقها واحدة لأنها ليست من جهة الإكتساب لكن من جهة الفضل
وقول من قال إن الفاني يرد إلى أوصافه محال لأن القائل إذ أقر بأن الله تعالى اختص عبدا واصطنعه لنفسه ثم قال إنه يرده فكأنه قال يختص مالا يختص ويصطنع مالا يصطنع وهذا محال
وجوازه من حهة التربية والحفظ عن الفتنة لا يصح أيضا لأن الله تعالى لا يحفظ على العبد ما آتاه من جهة السلب ولا بأن يرده إلى الأوضع عن الأرفع ولو جاز هذا جاز أن لا يحفظ مواضع الفتن من الأنبياء بأن يردهم من رتبة النبوة إلى رتبة الولاية أو ما دونها وهذا غير جائز
ولطائف الله تعالى في عصمة أنبيائه وحفظ أوليائه من الفتنة أكثر من أن تقع تحت الأحصاء والعد وقدرته أتم من أن تحصر على فعل دون غيره
فأن عورض بالذي آتاه آياته فانسلخ منها لم يعترض لأن الذي انسلخ لم يكن قط شاهد حالا ولا وجد مقاما ولا كان مختصا قط ولا مصطنعا بل كان مستدرجا مخدوعا ممكورا به
وإنما أجرى على ظاهره من اعلام المختصين وهو في الحقيقة من المردودين وإنما حلى ظاهره بالوظائف الحسنة والأوراد الزكية وهو في القلب محجوب السر لم يجد قط طعم الخصوص ولا ذاق لذة الإيمان ولا عرف الله قط من جهة الشهود كما أخبر الله تعالى عنه بقوله فكان من الغاوين وكما أخبر عن إبليس بقوله وكان من الكافرين
قال الجنيد إن إبليس لم أينل مشاهدته في طاعته وآدم لم يفقد مشاهدته في معصيته وقال أبو سليمان والله ما رجع من رجع إلا من الطريق ولو وصلوا إليه ما رجعوا عنه
والفاني يكون محفوظا في وظائف الحق كما قال الجنيد وقيل له ان أبا الحسين النوري قائم في مسجد الشونيزي منذ أيام لا يأكل ولا يشرب ولا ينام وهو يقول الله الله ويصلي الصلوات لأوقاتها فقال بعض من حضره إنه صاح فقال الجنيد لا ولكن أرباب المواجيد محفوظون بين يدي الله في مواجيدهم فإن رد الفاني إلى الأوصاف لم يرد إلى أوصاف نفسه ولكن يقام مقام البقاء بأوصاف الحق
وليس الفاني بالصعق ولا المعتوه ولا الزائل عنه أوصاف البشرية فيصير ملكا أو روحانيا ولكنه ممن فنى عن شهود حظوظه كما أخبرنا قبل
والفاني أحد عينين إما عين لم ينصب إماما ولا قدوة فيجوز أن يكون فناؤه غيبة عن أوصافه فيرى بعين العتاهه وزوال العقل لزوال تمييزه في مرافق نفسه وطلب حظوظه وهو على ذلك محفوظ في وظائف الحق عليه وقد كان في الأمة منهم كثير منهم هلال الحبشي عبد كان للمغيرة بن شعبة في حياة النبي صلى الله عليه و سلم نبه عنه النبي صلى الله عليه و سلم
وأويس القرني في أيام عمر بن الخطاب نبه عليه عمر وعلي رضي الله عنهما وخلق كثير
إلى أن كان عليا المجنون وسعدون وغيرهما
أو يكون إماما يقتدي به ويربط به غيره ممن يسوسه فأقيم مقام السياسة
والتأديب فهذا ينقل إلى حالة البقاء فيكون تصرفه بأوصاف الحق لا بأوصاف نفسه
والمتصرف بأوصاف الحق هو ما ذكرناه قبل
وسئل الجنيد عن الفراسة فقال هي مصادفة الإصابة
فقيل له هي للمتفرس في وقت المصادفة أو على الأوقات
قال لا بل على الأوقات لأنها موهبة فهي معه كائنة دائمة
فأخبر أن المواهب تكون دائمة
ومن يتتبع كتب القوم وفهم إشاراتهم علم أن قولهم ما حكيناه عنهم فإن هذه المسألة وأمثالها ليست بمنصوصات لهم ولا مفردات بل يعرف ذلك من قولهم بفهم رموزهم ودرك إشاراتهم والله أعلم
الباب الستون قولهم في حقائق المعرفة
قال بعض الشيوخ
المعرفة معرفاتان معرفة حق ومعرفة حقيقة
فمعرفة الحق إثبات وحدانية الله تعالى على ما أبرز من الصفات
والحقيقة على أن لا سبيل إليها لامتناع الصمدية وتحقق الربوبية عن الإحاطة
قال الله تعالى ولا يحيطون به علما لأن الصمد هو الذي لا تدرك حقائق نعوته وصفاته وقال بعض الكبراء المعرفة إحضار السر بصنوف الفكر في مراعاة مواجيد الأذكار على حسب توالي أعلام الكشوف
ومعناه أن يشاهد السر من عظمة الله وتعظيم حقه وإجلال قدرة ما تعجز عنه العبارة
سئل الجنيد عن المعرفة فقال هي تردد السر بين تعظيم الحق من الإحاطة وإجلاله عن الدرك وقد سئل عن العرفة فقال أن تعلم أن ما تصور في قلبك فالحق بخلافه فيا لها حيرة لا له حظ من أحد ولا لأحد منه حظ وإنما وجود يتردد في العدم لاتتهيأ العبارة عنه لأن المخلوق مسبوق والمسبوق غير محيط بالسابق
معنى هو وجود يتردد في العدم يعني صاحب الحال يقول هو موجود عيانا وشخصا وكأنه معدوم صفة ونعتا
وعن الجنيد أيضا قال المعرفة هي شهود الخاطر بعواقب المصير وأن لا يتصرف العارف بسرف ولا تقصير
ومعناه أن لا يشهد حاله وأن يشهد سابق علم الحق فيه وأن مصيره إلى ما سبق له منه ويكون مصرفا في الخدمة والتقصير
وقال بعضهم المعرفة إذا وردت على السر ضاق السر عن حملها كالشمس يمنع شعاعها عن إدراك نهايتها وجوهرها
قال ابن الفرغاني من عرف الرسم تجبر ومن عرف الوسم تحير ومن عرف السبق تعطل ومن عرف الحق تمكن ومن عرف المتولى تذلل
معناه من شاهد نفسه قائما بوظائف الحق أعجب ومن شاهد ما سبق له من الله تحير لأنه لا يدري ما علم الحق فيه وبماذا جرى القلم به ومن عرف أن ما سبق له من القسمة لا يتقدم ولا يتأخر تعطل عن الطلب ومن عرف الله بالقدرة
عليه والكفاية له تمكن فلا يضطرب عند المخوفات ولا عند الحاجات ومن عرف ان الله متولى أموره تدلل له في أحكامه وأقضيته
وقال بعض الكبار إذا عرفه الحق إياه أوقف المعرفة حيث لا يشهد محبة ولا خوفا ولا رجاء ولا فقرا ولا غنى لأنها دون الغايات والحق وراء النهايات
معناه أنه لا يشهد هذه الاحوال لأنها أوصافه وأوصافه أقصر من أن تبلغ ما يستحقه الحق من ذلك
أنشدونا لبعض الكبار ... راعيتنى بالحفاظ حتى ... حميت عن مرتع وبى ... فأنت عند الخصام عذرى ... وفي ظمائي فأنت ريى ... إذا امتطى العارف المعلى ... سرا إلى منظر على ... وغاص في أبحر غزار ... تفيض بالخاطر الوحى ... فض ختام الغيوب عما ... يحيى فؤاد الشبحي الولي ... من حار في دهشة التلاقى ... أبصرته ميتا كحى ...
يعنى من حيرته دهشه ما يبدو له من الله من شاهد تعظيم الله وإجلاله أبصرته حيا كميت يفنى عن رؤية ما منه ولا يجد له متقدما ولا متأخرا
الباب الحادي والستون
قولهم في التوحيداركان التوحيد سبعة
إفراد القدم عن الحدث وتنزيه القديم عن إدراك المحدث له وترك التساوى بين النعوت وإزالة العلة عن الربوبية وإجلال الحق عن أن تجرى قدرة الحدث عليه فتلونه وتنزيهه عن التمييز والتأمل وتبرئته عن القياس قال محمد بن موسى الواسطي جملة التوحيد أن كل ما يتسع به اللسان أو يشير اليه البيان من تعظيم أو تجريد أو تفريد فهو معلول والحقيقة وراء ذلك
معناه أ كل ذلك من أوصافك وصفاتك محدثة معلولة مثلك وحقيقة الحق هو وصفه له
وقال بعض الكبراء التوحيد إفرادك متوحدا وهو أن لا يشهدك الحق إياك
قال فارس لا يصح التوحيد ما بقيت عليك علقة من التجريد والموحد بالقول لا يشهد السر منفردا به والموحد بالحال غائب بحاله عن الاقوال ورؤية الحق حال لا يشهده إلا كل ما له ولا سبيل الى توحيده بلا قال ولا حال
وقال بعضهم التوحيد هو الخروج عن جميعك بشرط استيفاء ما عليك وأن لا يعود عليك ما يقطعك عنه معناه تبذل مجهود في أداء حق الله ثم تتبرأ من رؤية أداء حقه ويستوفيك التوحيد عن أوصافك فلا يعود عليك منها شيء فإنه قاطع لك عنه
قال الشبلى لا يتحقق العبد بالتوحيد حتى يستوحش من سره وحشة لظهور الحق عليه
وقال بعضهم الموحد من حال الله بينه وبين الدارين جميعا لان الحق يحمى حريمه
قال جل وعز نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة
فلا نردكم إلى معنى سوانا في الدنيا والآخرة
وعلامة الموحد أن لا يجرى عليه ذكر إخطار ما لا حقيقة له عند الحق
فالشواهد عن سره مصروفة والاعواض عن قلبه مطرودة فلا شاهد يشهده ولا عوض يعبده ولا سر يطالعه ولا بر يلاحظه هو في حقه عن حقه محجوب وفي حظه عن حظه مسلوب فلا نصيب له في نصيب وهو مأسور في أوفر النصيب والحق أوفر نصيب من فاته الحق فليس له شيء وإن ملك الكون ومن وجد الحق فله كل شيء وإن لم يملك ذرة
معناه هو قائم بحقه محجوب عن رؤية قيامه بحقه وهو مسلوب عن حظوظه وهو يرى نفسه قائمة بحظوظها ونصيبه من الحق وجود الحق وهو فيه مأسور وليس له متقدم ولا متأخر وأنسدونا لبعضهم ... مواجيد حق أوجد الحق كلها ... وإن عجزت عنها فهوم الاكابر ...
الباب الثاني والستون
قولهم في صفة العارفسئل الحسن بن علي بن يزدانيار متى بكون العارف بمسهد الحق
قال إذا بدا الشاهد وفنى الشواهد وذهب الحواس واضمحل الاخلاص
معنى بدا الشاهد يعنى شاهد الحق وهو أفعاله بك مما سبق منه أليك من بره لك وإكرامه إياك بمعرفته وتوحيده والايمان به تفنى رؤية ذلك منك رؤية أفعالك وبرك وطاعتك فترى كثير ما منك مستغرقا في قليل ما منه وأن كان ما منه ليس بقليل وما منك ليس بكثير
وفناء الشواهد بسقوط رؤية الخلق عنك بمعنى الضر والنفع والذم والمدح وذهاب الحواس هو معنى قوله فبى ينطق وبي يبصر الحديث
ومعنى اضمحل الاخلاص أن لا يراك مخلصا وما خلص من أفعالك إن خلص ولن يخلص أبدا إذا رأيت صفتك فإن أوصافك معلولة مثلك سئل ذو النون عن نهاية العارف فقال إذا كان كما كان حيث كان قبل أن يكون
معناه أن يشاهد الله وأفعاله دون شاهده وأفعاله
قال بعضهم أعرف الخلق بالله أشدهم تحيرا فيه
قيل لذي النون ما أول درجة يرقاها العارف
فقال التحير ثم الافتقار ثم الاتصال ثم التحير
الحيرة الاولى في أفعاله به ونعمه عنده فلا يرى شكره يوازى نعمه وهو يعلم أنه مطالب بشكرها وإن شكر كان شكره نعمة يجب عليه شكرها ولا يرى أفعاله أهلا أن يقابله بها استحقارا لها ويراها واجبة عليه لا يجوز له التخلف عنها
وقيل قام الشبلي يوما يصلي فبقي طويلا ثم صلى فلما انفتل عن صلاته قال يا ويلاه إن صليت جحدت وإن لم أصل كفرت
أي جحدت عظم النعمة وكمال الفضل حيث قابلت ذلك بفعلي شكرا له مع حقارته
ثم أنشد ... الحمد لله على أنني ... كضفدع يسكن في اليم ... إن هي فاهت ملأت فمها ... أو سكتت ماتت من الغم ...
والحيرة الاخيرة أن يتحير في متاهات التوحيد فيضل فهمه ويخنس عقله في عظم قدرة الله تعالى وهيبته وجلاله
وقد قيل دون التوحيد متاهات تضل فيها الافكار
سأل أبو السوداء بعض الكبار فقال هل للعارف وقت قال لا
فقال لم
قال لان الوقت فرجة تنفس عن الكربة والمعرفة أمواج تغط وترفع تحط فالعارف وقته أسود مظلم
ثم قال ... شرط العارف محو الكل منك إذا ... بد المريد بلحظ غير مطلع ...
قال فارس العارف من كان علمه حالة وكانت حركاته غلبة عليه
سئل الجنيد عن العارف فقال لون الماء لون الاناء
يعني انه يكون في كل حال بما هو أولى فيختلف أحواله ولذلك قيل هو ابن وقته
سئل ذو النون عن العارف فقال كان ها هنا فذهب
يعنى أنك لا تراه في وقتين بحالة واحدة لان مصرفه غيره
وانشدونا لابن عطاء ... ولو نطقت في ألسن الدهر خبرت ... بأني في ثوب الصبابة أرفل ... وما إن لها علم بقدري وموضعي ... وما ذاك موهوم لاني أنقل ...
وقال سهل بن عبد الله أول مقام في المعرفة أن يعطى العبد يقينا في سره تسكن به جوارحه وتوكلا في جوارحه يسلم به في دنياه وحياة في قلبه يفوز بها في عقباه
قلنا العارف هو الذي بذل مجهوده فيما لله وتحقق معرفته بما من الله وصح رجوعه من الاشياء إلى الله
قال الله تعالى ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق
يجوز أن يكون ما عرفوا من الله من بره وإحسانه بقصده إليهم وإقباله عليهم واختصاصه إياهم من بين ذويهم
كما قال أبي بن كعب حين قال له النبي صلى الله عليه و سلم إن الله أمرني أن أقرأ عليك
فقال يا رسول الله أو ذكرت هناك
قال نعم
فبكى أبي لم ير حالا يقابله بها ولا شكر يوازي نعمه ولا ذكرا كما يستحقه فانقطع فبكى
وقال النبي صلى الله عليه و سلم لحارثة عرفت فالزم نسبه الى المعرفة والزمه إياها ولم يدله على عمل
سئل ذو النون عن العارف فقال هو رجل معهم باين عنهم
قال سهل أهل المعرفة بالله كأصحاب الاعراف يعرفون كلا بسيماهم أقامهم مقاما أشرف بهم على الدارين وعرفهم الملكين
انسدونا لبعضهم ... يا لهف نفسي على قوم مضوا فقضوا ... لم أقض منهم وإن طاولتهم وطرى ... هم المخافيت في كبر الملوك إذا ... أبصرتهم قلت إضمار بلا صور ...
الباب الثالث والستون
قولهم في المريد والمرادالمريد مراد في الحقيقة والمراد مريد لأن المريد لله تعالى لا يريد إلا بإرادة من الله عز و جل تقدمت له قال الله تعالى يحبهم ويحبونه وقال رضي الله عنهم ورضوا عنه
وقال ثم تاب عليهم ليتوبوا
فكانت إرادته لهم سبب إرادتهم له إذ علة كل شيء صنعه ولا علة لصنعه ومن أراده الحق فمحال أن لا يريده العبد فجعل المريد مرادا والمراد مريدا غير أن المريد هو الذي سبق اجتهاده كشوفه والمراد هو الذي سبق كشوفه اجتهاده
فالمريد هو الذي قال الله تعالى عنه والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وهو الذي يريده الله تعالى فيقبل بقلبه ويحدث فيه لطفا يثير منه فيه الاجتهاد فيه والاقبال عليه والارادة له ثم يكاشفه الاحوال
كما قال حارثة عزفت نفسي عن الدنيا فأظمأت نهاري وأسهرت ليلي ثم قال وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا
فأخبر أن كشوف أحوال الغيب له كان عقيب عزوفه عن الدنيا
والمراد هو الذي يجذبه الحق جذبه القدرة ويكاشفه بالاحوال فيثير قوة الشهود منه اجتهادا فيه وإقبالا عليه وتحملا لاثقاله
كسحرة فرعون لما كوشفوا بالحال في الوقت سهل عليهم تحمل ما توعدهم به فرعون فقالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض
وكما فعل بعمر بن الخطاب رضي الله عنه أقبل يريد قتل رسول الله فأسره الحق في سبيله
وكقصة إبراهيم بن ادهم خرج يطلب الصيد متلهيا فنودي ما لهذا خلقت ولا بهذا أمرت مرتين ونودي في الثالثة من قربوس سرجه فقال والله لا عصيت الله بعد يومي هذا ما عصمني ربي
هذه جذبة القدرة كوشوفوا بالاحوال فأسفطوا عن النفوس والاموال
أنشدني الفقيه أبو عبد الله البرقي لنفسه ... مريد صفا منه سر الفؤاد ... فهام به السر في كل واد ... ففي أي واد سعى لم يجد ... له ملجأ غير مولى العباد ... صفا بالوفاء وفى بالصفا ... ونور الصفاء سراج الفؤاد ... أراد وما كان حتى أريد ... فطوبى له من مريد مراد ...
الباب الرابع والستون
قولهم في المجاهدات والمعاملاتقال بعض الكبراء التعبد إتيان ما وظف الله على شرط الواجب
وشرط الواجب الإتيان به على غير مطالبة عوض وإن شهدته فضلا بل يستوفيك عن رؤية الفضل
والعوض ما لله عليك في العمل في قوله إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم قال ليعبدوه بالرق لا بالطمع
قيل لابي بكر الواسطي بأي شاهد ينبغي أن يكون العبد في حركات ما يسعى
قال بشاهد الفناء عن حركاته التي هي كائنة بغيره
قال أبو عبد الله النياجي استحلاء الطاعة ثمرة الوحشة عن الحق جل وعز إذ لا يواصل الحق بها ولا يفاصل ولا يعتمد عليها اعتماد معول ولا يتركها ترك معاند بل يقيم وظائف الحق رقا وعبودية ويكون الاعتماد على ما في الازل
يريد باستحلاء الطاعة رؤيتها من نفسك دون مشاهدة فضل الله عليك في التوفيق في قول الله تعالى ولذكر الله أكبر قال أكبر من أن تبلغه أفهامكم وتحويه عقولكم ويجري على ألسنتكم
وحقيقة الذكر هو نسيان ما سواه فيه لقوله عز و جل واذكر ربك إذا نسيت وفي قوله تعالى كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الايام الخالية أي الخالية عن ذكر الله لتعلموا أنكم بفضله نلتم لا بأعمالكم
قال أبو بكر القحطبي نفوس الموحدين نفوس سئمت من جميع ما ظهر من نعوتها وصفاتها واستقبحت كل باد بدا منها وانقطعت عن الشواهد والعوائد والفوائد وعجزت عن إظهار الدعوى بين يديه لما سمعت قوله عز و جل ولا يشرك بعبادة ربه أحدا
الشواهد الخلق والعوائد الاعواض والفوائد الاعراض
قال أبو بكر الواسطي معنى التكبير في الصلاة كأنك تقول جللت عن أن تواصل بها أو تفاصل بتركها إذ الفصل والوصل ليس بحركات بل هو بما سبق في الازل
قال الجنيد لا يكونن همك في صلاتك إقامتها دون الفرح والسرور بالاتصال بمن لا وسيلة إليه إلا به
قال ابن عطاء لا يكونن همك في صلاتك إقامتها دون الهيبة والاجلال لمن رآك فيها
وقال غيره معنى الصلاة التجريد عن العلائق والتفريد بالحقائق
والعلائق ما سوى الله والحقائق مالله ومن الله
وقال آخر الصلاة وصل
قال سمعت فارسا يقول معنى الصوم الغيبة عن رؤية الخلق برؤية الحق عز و جل لقوله تعالى في قصة مريم إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا
قال لغيبتي عنهم برؤية الحق فلا أستجيز في صومي أن يشغلني عنه شاغل أو يقطعني عنه قاطع
ويدل على قول النبي صلى الله عليه و سلم الصوم جنة أي حجاب عما دون الله في قوله تعالى الصوم لي وأنا أجزى به
قال بعض الكبار أي أنا الجزاء به وقال أبو الحسن بن أبي ذر أي معرفتي هي الجزاء له به قال وحسبه ذلك جزاء فما يبلغها شيء ولا يدانيها
سمعت أبا الحسن الحسنى الهمداني يقول معنى قوله الصوم لي كي ينقطع الاطماع عنه طمع العدو أن يفسده لان ما لله فلا يطمع فيه العدو وطمع النفس أن تعجب به فإنها إنما تعجب بما لها وطمع الخصوم في الآخرة فإنهم يأخذون ما للعبد دون ما لله هذا معنى ما فهمت من قوله
قال بعضهم جهد البلاء النظر الى النفوس والاعتماد على الافعال فإن وكل إليها فهو درك الشقاء وفي درك الشقاء شماتة الاعداء
أنشدونا للنورى
أقول أكاد اليوم أن أبلغ المدى ... فيبعد عنى ما أقول أكاد ... فما لي جهاد غير أنى مقصر ... وعجزي عن طول الجهاد جهاد ... وإن رجائي عودة منك بالرضا ... وإلا فحظي في المعاد بعاد ...
انشدونا لغيره ... هبني أراعيك بالاذكار ملتمسا ... ما يبتغيه ذوو التلوين بالغير ... فكيف لي بشهود منك يحملني ... عن فتنة الوقت بل عن حجبة الاثر ...
يقول إن طالعت في أفعالي ومجاهداتي ثوابك عليها وهو الذي يطلبه أرباب لمجاهدات وأصحاب المعاملات فيكف أطالع سهود ما يحملني عن خوف العاقبة من تغيير الأحوال والاوقات وعن النظر إلى حركاتي ومجاهداتي وهي التي تحجبني عنك
الباب الخامس والستون
حالهم في الكلام على الناسقيل للنوري متى يستحق الانسان الكلام على الناس
قال إذا فهم عن الله جل جلاله صلح أن يفهم عباد الله وإذا لم يفهم عن الله كان بلاؤه عاما في بلاده وعلى عباده
قال السرى السقطي إني أذكر مجيء الناس إلى فأقول اللهم هب لهم من العلم ما يشغلهم عني فإني لا أحب مجيئهم إلى
قال سهل بن عبد الله أنا منذ ثلاثين سنة أكلم الله والناس يتوهمون أنى أكلمهم قال الجنيدي للشبلي نحن حبرنا هذا العلم تحبيرا ثم خبأناه في السراديب فجئت أنت فأظهرته على رؤوس الملأ
فقال أنا أقول وأنا أسمع فهل في الدارين غيري
وقال بعض الكبار للجنيد وهو يتكلم على الناس يا أبا القاسم إن الله لا يرضى عن العالم بالعلم حتى يجده في العلم فإن كنت في العلم فالزم مكانك وإلا فانزل
فقام الجنيد ولم يتكلم على الناس شهرين ثم خرج فقال لولا أنه بلغني عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال في آخر الزمان يكون زعيم القوم أرذلهم ما خرجت اليكم
وقال الجنيد ما تكلمت على الناس حتى أشار إلى وعلى ثلاثون من البدلاء إنك تصلح أن تدعو إلى الله عز و جل
وقيل لبعض الكبار لم لا تتكلم
فقال هذا علم قد أدبر وتولى والمقبل على المدبر أدبر من المدبر
قال أبو منصور البنجخينى لأبي القاسم الحكيم بأي نية أتكلم على الناس
فقال لا أعلم للمعصية نية غير الترك
واستأذن أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الرازي أبا حفص الحداد وكان تلميذه في الكلام على الناس فقال له أبو حفص وما يدعوك إليه فقال أبو عثمان الشفقة عليهم والنصيحة لهم
فقال وما بلغ من شفقتك عليهم
فقال لو علمت أن الله يعذبني بدل جميع من آمن به ويدخلنهم الجنة وجدت من قلبي الرضا به
فأذن له وشهد أبو حفص مجلسه فلما قضى أبو عثمان كلامه قام سائل فسبق أبو عثمان فأعطاه ثوبا كان عليه
فقال أبو حفص يا كذاب إياك أن تتكلم على الناس وفيك هذا الشيء
فقال أبو عثمان وما ذاك يا أستاذ
قال أما كان فيك من النصيحة لهم والشفقة عليهم أن تؤثرهم على نفسك بثواب السبق ثم تتلوهم
سمعت فارسا يقول سمعت أبا عمرو الانماطي يقول كنا عند الجنيد إذ مر به الوري فسلم فقال له الجنيد وعليك السلام يا أمير القلوب تكلم
فقال النوري يا أبا القاسم غششتهم فأجلسوك على المنابر ونصحتهم فرموني في المزابل
فقال الجنيد ما رأيت قلبي أحزن منه في ذلك الوقت
ثم خرج علينا في الجمعة الاخرى فقال إذا رأيتهم الصوفي يتكلم على الناس فاعلموا أنه فارغ
وقال ابن عطاء في قوله تعالى وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا قال على مقدار فهومهم ومبلغ عقولهم
وقال غيره في قوله تعالى ولو تقول علينا بعض الاقاويل لاخذنا منه باليمن أي لو نطق بالمواجيد على أهل الرسوم يدل عليه قوله بلغ ما أنزل إليك من ربك ولم يقل بلغ ما تعرفنا به إليك
رأى الحسين المغازلي رويم بن محمد وهو يتكلم على الناس في الفقر فوقف عليه وقال
وما تصنع بالسيف ... إذا لم تك قتالا ... ألا ابتعت بما حلي ... ت هذا السيف خلخالا ...
عبر بعبارته عن حال ليس هو فيها
قال بعض الكبار من تكلم عن غير معناه فقد تحمر في دعواه قال الله تعالى كمثل الحمار يحمل أسفارا
الباب السادس والستون
في توقي القوم ومجاهداتهمورث حارث المحاسبي من أبيه أكثر من ثلاثين ألف دينار فلم يأخذ منه شيئا وقال إنه كان يرى القدر
قال أبو عثمان كنا في دار أبي بكر بن أبي حنيفة مع أبي حفص فجرى ذكر صديق غائب عنا
فقال أبو حفص لو كان عندنا كاغد كتبنا أليه
فقلت ها هنا كاغد وكان أبو بكر قد خرج إلى السوق
فقال أبو حفص لعل أبا بكر قد مات ولم نعلم وصار الكاغد للورثة فترك الكتاب
وقال أبو عثمان كنت عند أبي حفص وبين يديه زبيب فأخذت زبيبة ووضعتها في فمي فأخذ بحلقي وقال يا خائن تأكل ربيبي فقلت لثقتي بزهادتك في الدنيا وعلمي بإثارك أخذت الزبيبة فقال يا جاهل تثق بقلب لا يملكه صاحبه
سمعت كثيرا من مشائخنا يقولون كان الشيوخ يهجرون الفقير لثلاث
إذا حج عن غيره بمال وإذا أتى خراسان وإذا دخل اليمن فقالوا من أتى خراسان لم يأته إلا للرفق وليس بها مباح فيطيب مطعمه
وأما اليمن ففيه طرق إلى الفسق كثيرة
وكان أبو المغيث لا يستند ولا ينام على جنبه وكان يقوم الليل وإذا غلبته عينه قعد ووضع جبينه على ركبتيه فيعفو غفوة
فقيل له ارفق بنفسك
فقال والله ما رفق الرفيق بي رفقا فرحت به أما سمعت سيد المرسلين يقول أشد الناس بلاء الانبياء ثم الامثل فالامثل
قالوا إن أبا عمرو الزجاجي أقام بمكة سنين كثيرة لم يحدث في الحرم وكان يخرج من الحرم للحدث ثم يعود إليه وهو على طهارة
قال سمعت فارسا يقول كان أبو عبد الله المعروف بشكثل لا يكلم الناس وكان يأوي الى الخرابات في سواد الكوفة وكان لا يأكل إلا المباح والقمامات فلقيته يوما فتعلقت به وقلت سألتك بالله ألا أخبرتني ما الذي منعك عن الكلام
فقال يا هذا الكون توهم في الحقيقة ولا تصح العبارة عما لا حقيقة له والحق تقصر عنه الاقوال دونه فما وجه الكلام وتركني ومر
قال وسمعته يقول سمعت الحسين المغازلي يقول رأيت عبد الله القشاع ليلة قائما على شط دجلة وهو يقول يا سيدي أنا عطشان يا سيدي أنا عطشان حتى أصبح فلما أصبح قال يا ويلتي تبيح لي شيئا وتحول بيني وبينه وتخطر علي شيئا وتخلي بيني وبينه فأيش أصنع ورجع ولم يشرب منه
وسمعته يقول سمعت بعض الفقراء قال كنت سنة الهبير مع الناس فانفلت ثم رجعت فكنت أطوف بين الجرحى قال فرأيت أبا محمد الجريري وكان قد نيف على المائة
فقلت يا شيخ ألا تدعو فيكشف ما ترى
قال قد فعلت قال إني أفعل ما أشاء فأعدت عليه فقال يا أخي ليس هذا وقت الدعاء هذا وقت الرضا والتسليم
فقلت ألك حاجة
فقال أنا عطشان
فجئته بماء فأخذه وأراد أن يشرب فنظر إلى فقال هؤلاء عطاش وأنا أشرب هذا شره فرده على ومات من ساعته
قال وسمعته يقول سمعت بعض أصحاب الجريري يقول مكثت عشرين سنة لا يخطر لي ذكر الطعام حتى يحضر ومكثت عشرين سنة أصلى الفجر على طهور العشاء الآخرة ومكثت عشرين سنة لا أعقد مع الله عقدا مخافة أن يكذبني على لساني ومكثت عشرين سنة لا يسمع لساني إلا من قلبي ثم حالت الحال فمكثت عشرين سنة لا يسمع قلبي إلا من لساني
معنى قوله لا يسمع لساني إلا من قلبي أي لا أقول إلا من حقيقة ما أنا عليه وقوله لا يسمع قلبي إلا من لساني أي حفظ على لساني لما قال فبي يسمع وبي يبصر وبي ينطق
قال وسمعت بعض مشائخنا يقول سمعت محمد بن سعدان يقول خدمت أبا المغيث عشرين سنة فما رأيته أسف على شيء فاته أو طلب شيئا فقده
وقيل إن أبا السوداء وقف ستين وقفة
وجعفر بن محمد الخلدي وقف خمسين وقفة
وكان بعض المشايخ وأكثر ظني أنه أبو حمزة الخراساني حج عشر حجج عن النبي صلى الله عليه و سلم وحج عن العشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم
عشر حجج حج عن نفسه حجة يتوسل بتلك الحجج إلى الله في قبول حجته
الباب السابع والستون
في لطائف الله للقوم وتنبيهه إياهم بالهاتفقال أبو سعيد الخراز بينا أنا عشية عرفة قطعني قرب الله عز و جل عن سؤال الله ثم نازعتني نفسي بأن أسأل الله تعالى فسمعت هاتفا يقول أبعد وجود الله تسأل الله غير الله
قال أبو حمزة الخراساني حججت سنة من السنين فكنت أمشي فوقعت في بئر فنازعتني نفسي بأن أستغيث فقلت لا والله لا أستغيث فما استتممت هذا الخاظر حتى مر برأس بالبئر رجلان فقال أحدهما للآخر تعال حتى نطم رأس هذا البئر من الطريق فأتوا بقصب وبارية وهممت أن أصيح ثم قلت يا من هو أقرب إلى منهما وسكت حتى طموا ومضوا فإذا أنا بشيء قد دلى برجليه في البئر وهو يقول تعلق بي فتعلقت به فإذا هو سبع وإذا هاتف يهتف بي ويقول لي يا أبا حمزة هذا حسن نجيناك من التلف في البئر بالسبع
قال سمعت بعض أصحابنا يقول قال أبو الوليد السقاء قدم إلى أصحابنا بوما لبنا فقلت هذا يضرني فلما كان يوم من الايام دعوت الله تعالى فقلت اللهم اغفر لي فإنك تعلم أني ما أشركت بك طرفة عين فسمعت هاتفا يهتف بي ويقول ولا ليلة اللبن
قال أبو سعيد الخراز كنت في البادية فنالني جوع شديد فطالبتني نفسي بأن أسأل الله طعاما فقلت ليس هذا من فعل المتوكلين فطالبتني نفسي بأن أسأل الله صبرا فلما هممت بذلك سمعت هاتفا يقول ويزعم أنه منا قريب ... وأنا لا نضيع من أتانا ... ويسألنا القوى عجزا وضعفا ... كأنا لا نراه ولا يرانا ...
ويشهد لصحة حال الهاتف ما حدثنا محمد بن محمد بن محمود قال حا نصر بن زكريا حا عمار بن الحسن حا سلمة بن الفضل حا محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عائشة قالت لما أرادوا غسل النبي صلى الله عليه و سلم اختلفوا فيه فقالوا والله ما ندري أنجرد رسول الله من ثيابه كما نجرد موتانا أو نغسله وعليه ثيابه قالت فلما اختلفوا ألقى الله عليهم السنة حتى ما بقي منهم أحد إلا وذقنه في صدره ثم كلمهم متكلم من ناحية البيت لا يدرون من هو أن اغسلوا النبي وعليه ثيابه
الباب الثامن والستون
تنبيههم اياهم بالفراسات قال أبو العباس بن المهتدي كنت في البادية فرأيت رجلا يمشي بين يدي حافي القدم حاسر الرأس ليس معه ركوة فقلت في نفسي كيف يصلي هذا الرجل ما لهذا طهارة ولا صلاة قال فالتفت إلى فقال يعلم ما في أنفسكم فاحذروه قال فسقطت مغشيا علي قال فلما أفقت استغفرت الله من تلك الرؤية التي نظرت بها إليه فبينا أنا أمشي في بعض الطريق فإذا هو بين يدي فلما رأيته هبته وتوقفت فالتفت إلى ثم قرأ وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات قال ثم غاب فما رأيته بعد ذلك أو كما قالسمعت أبا الحسن الفارسي يقول قال لي أبو الحسن المزين دخلت البادية وحدي على التجريد فلما بلغت العمق قعدت على شفير البركة فحدثتني نفسي بقطعها البادية على التجريد ودخلها شيء من العجب فإذا أنا بالكتاني أو غيره الشك مني من وراء البركة فناداني يا حجام إلى كم تحدث نفسك نفسك بالاباطيل
ويرى أنه قال له يا حجام احفظ قلبك ولا تحدث نفسك بالاباطيل
وقال ذو النون رأيت فتى عليه أطمار رثة فتقذرته نفسي وشهد له قلبي بالولاية فقيت بين نفسي وقلبي أتفكر فاطلع الفتى على سري فنظر إلى فقال يا ذا النون لا تبصرني لكي ترى خلقي وانما الدر داخل الصدف ثم ولى وهو يقول ... تهت على أهل ذا الزمان فما ... أرفع منهم لواحد رأسا ... ذاك لاني فتى أخو فطن ... أعرف نفسي وأعرف الناسا ... فصرت حرا مملكا ملكا ... مدرعا بالقنوع لباسا ...
ويشهد لصحة الفراسة ما حدثنا أحمد بن علي قال حا ثواب بن يزيد الموصلي حا إبراهيم بن الهيثم البلدي حا أبو صالح كاتب الليث حا معاوية بن صالح عن راشد بن سعيد عن أبي أمامة الباهلي قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله
الباب التاسع والستون
تنبيهه إياهم بالخواطرقال أبو بكر بن مجاهد المقريء قدم أبو عمرو بن العلاء يوما ليصلي بالناس وما كان يؤم فيقدم اضطرارا فلما تقدم قال للناس استووا فغشي عليه فلم يفق إلا بالغد فقيل له في ذلك فقال وقت ما قلت لكم استووا وقع في قلبي خاطر من الله تعالى كأنه يقول لي يا عبدي هل استويت لي قط طرفة عين حتى تقول لخلقي استووا قال الجند مرضت مرضة فسألت الله أن يعافيني فقال لي في سري لا تدخل بيني وبين نفسك
قال سمعت بعض أصحابنا يقول سمعت محمد بن سعدان يقول سمعت بعض الكبراء يقول ربما أغفو غفوة فأنادى أتنام عني إن نمت عني لاضربنك بالسياط
الباب السبعون
تنبيهه إياهم في الرؤيا ولطائفهاقال سمعت أبا بكر محمد بن غالب يقول سمعت محمد بن خفيف يقول سمعت أبا بكر محمد بن علي الكتاني يقول رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم في عادتي فكانت العادة قد جرت له أنه كان يرى النبي صلى الله عليه و سلم كل ليلة اثنين وخميس فيسأله مسائل فيجيبه عنها قال فرأيته قد أقبل علي ومعه أربعة نفر
فقال لي يا أبا بكر أتعرف من هذا
قلت نعم هو أبو بكر
ثم قال لي أتعرف هذا
قلت نعم هو عمر
ثم قال أتعرف هذا
قلت نعم هو عثمان
ثم قال لي أتعرف هذا الرابع
فتوقفت ولم أجب فأعاد علي ثانيا فتوقفت فأعاد علي ثالثا فتوقفت وكان في قلبي منه غيرة قال فجمع كفه وأشار بها إلى ثم بسطها وضرب بها صدري وقال لي يا أبا بكر قل هذا علي بن أبي طالب
فقلت يا رسول الله هذا علي بن ابي طالب قال فآخى عليه السلام بيني وبين علي رضي الله عنه قال ثم أخذ علي رضي الله عنه بيدي وقال لي يا أبا بكر قم حتى تخرج إلى الصفا فخرجت معه إلى الصفا وكنت نائما في حجرتي فاستيقظت فإذا أنا على الصفا
قال سمعت منصور بن عبد الله قال سمعت أبا عبد الله بن الجلاء يقول دخلت مدينة رسول الله صلى الله عليه و سلم وبي شيء من الفاقة فتقدمت إلى القب وسلمت على النبي صلى الله عليه و سلم وعلى ضجيعيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ثم قلت يا رسول الله بي فاقة وأنا ضيفك الليلة ثم تنحيت ونمت بين القبر والمنبر فإذا أنا بالنبي عليه السلام جاءني ودفع إلي رغيفا فأكلت نصفه فانتبهت فإذا في يدي نصف الرغيف
قال يوسف بن الحسين كان عندنا شاب من أهل الارادة أقبل على الحديث وقصر في قراءة القرآن فأتى في منامه فقيل له إن لم تكن بي جافيا فلم هجرت كتابي أما تدبرت ما فيه من لطيف خطابي
يشهد لصحة الرؤيا ما حدثنا على بن الحسن بن أحمد السرخسي إمام جامعها حا أبو الوليد محمد بن إدريس السلمي حا سويد حا محمد بن عمرو بن صالح بن مسعود الكلاعي عن الحسن البصري قال دخلت مسجد البصرة فإذا رهط من أصحابنا جلوس فجلست إليهم فإذا هم يذكرون رجلا يغتابونه فنهيتهم عن ذكره وحدثتهم بأحاديث في الغيبة بلغتني عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وعن عيسى بن مريم عليه السلام فأمسك القوم وأخذوا في حديث آخر ثم عرض ذكر ذلك الرجل فتناولوه وتناولته معهم فانصرفوا إلى رحالهم وانصرفت إلى رحلي فنمت فأتاني آت في منامي أسود في يده طبق من خلاف
وعليه قطعة من لحم خنزير فقال لي كل قلت لا آكل هذا لحم خنزير قال كل قلت لا آكل هذا لحم خنزير قال كل قلت لا آكل هذا لحم خنزير هذا حرام قال لتأكلنه فأبيت عليه ففك لحي ووضعها في فمي فجعلت ألوكها وهو قائم بين يدي فجعلت أخاف أن القيها وأكره أن أسترطها فاستيقظت على تلك الحال فوالله لقد لبثت ثلاثين يوما ثلاثين ليلة ما ينفعني طعام أطعمه ولا شراب أشربه إلا وجدت طعمها في فمي وريحها في منخري
الباب الحادي والسبعون
لطائف الحق بهم في غيرته عليهمدخل جماعة على رابعة يعودونها من شكوى فقالوا ما حالك
قالت والله ما أعرف لعلتي سببا غير أني عرضت على الجنة فملت بقلبي إليها فأحسب أن مولاي غار علي فعاتبني فله العتبى
قال الجنيد دخلت على سري السقطي فرأيت عنده خزف كوز مكسور فقلت ما هذا
قال جاءتني الصبية البارحة بكوز فيه ماء فقالت لي يا أبت هذا الكوز معلق ههنا فإذا برد فأشربه فإنها ليلة غمة فغلبتني عيني فرأيت جارية من أحسن الجواري دخلت علي فقلت لمن أنت قالت لمن لا يشرب الماء المبرد في الكيزان وضربت بيدها إلى الكوز فانكسر وهو الذي ترى فما زال الخزف مكانه لم يحركه حتى ستره الغبار
قال المزين أقمت في بعض المنازل بالبادية سبعة أيام لم أطعم شيئا فأضافني رجل في منزله فقدم إلى تمرا وخبزا فلم أقدر على أكله فلما كان الليل اشتهيته فأخذت نواة أعالج بها فتح فمي فضربت النواة سني فقالت صبية من البيت يا أبي كم يأكل ضيفنا الليلة فقلت يا سيدي جوع سبعة أيام ثم تنغص على وعزتك لا ذقته
قال أحمد بن السمين كنت أمشي في طريق مكة فإذا أنا برجل يصيح أغثني يا رجل الله الله
قلت مالك مالك
قال خذ مني هذه الدراهم فإني ما أقدر أن أذكر الله وهي معي فأخذتها منه فصاح لبيك اللهم لبيك وكانت أربعة عشر درهما
قيل لابي الخير الاقطع ما كان سبب قطع يدك قال كنت في جبل لكام أو لبنان ومعي رفيق لي فجاء رجل من بعض السلاطين ومعه دنانير يفرقها فناولني منها دينارا فمددت إليه ظهر كفي فوضع عليها دينارا فقلبته يدي في حجر رفيقي وقمت فلما كان بعد ساعة إذا أنا بأصحاب السلطان يطلبون لصوصا فأخذوني فقطعوا يدي
يشهد فهذا المعنى ما حدثنا به أ مد بن حيان التميمي قال أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن أسماعيل حا قتيبة بن سعيد حا يعقوب بن عبد الرحمن الاسكندراني عن عمرو بن أبي عمرو عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد أن النبي صلى الله عليه و سلم قال إن الله تعالى ليحمي عبده من الدنيا وهو يحبه كما تحمون مرضاكم
الباب الثاني والسبعون
لطائفه بهم فيما يحملهمسمعت فارسا يقول سمعت أبا الحسن العلوي تلميذ إبراهيم الخواص يقول رأيت الخواص بالدينور في جامعها وهو جالس في وسطه والثلج يقع عليه فأدركني الاشفاق عليه فقلت له لو تحولت إلى الكن
فقال لا ثم أنشأ يقول ... لقد وضح الطريق إليك قصدا ... فما أحد أرادك يستدل ... فإن ورد الشتاء ففيك صيف ... وأن ورد المصيف ففيك ظل ...
ثم قال لي هات يدك فناولته يدي فأدخلتها تحت خرقته فإذا هو يتصبب عرقا
قال سمعت أبا الحسن الفارسي يقول كنت في بعض الوادي فأصابني عطش شديد حتى تعبت عن المشي من الضعف وكنت سمعت أن العطشان تقطر عيناه قبل أن يموت قال فقعدت وأنا أنتظر تقطر عيني إذ سمعت حسا فنظرت فإذا هي حية بيضاء كأنها الفضة الصافية تبرق وقد قصدتني مسرعة فهالتني فقمت فزعا ودخلتني قوة من الفزع فجعلت أمشي على ضعف وهي خلفي تنفث فلم أزل أمشي وهي خلفي حتى بلغت ماء وسكن الحس فالتفت فلم أرها وشربت الماء فنجوت قال وربما يكون بي غم أوعلة فأراها في النوم فتكون بشارة لي بفرج غمي وزوال علتي
الباب الثالث والسبعون
لطائفه بهم في الموت وبعدهقال أبو الحسن المعروف بالقزاز كنا في الفج فأتانا شاب حسن الوجه عليه طمران فسلم علينا وقال ههنا موضع أموت فيه نظيف قال فعجبنا وقلنا له نعم فدللناه على عين بالقرب منا فذهب فتوضأ وصلى ما شاء الله ثم انتظرنا ساعة فلم يجئنا فأتيناه فإذا هو ميت
قال أصحاب سهل بن عبد الله كان سهل على التخت يغسل وسبابته من يده اليمنى منتصبة يشير بها
قال أبو عمرو الاصطخري رأيت أبا تراب النخشبي في البادية قائما ميتا لا يمسكه شيء
قال إبراهيم بن شيبان وافاني بعض المريدين فاعتل عندي أياما فمات فلما أن أدخل في قبره أردت أن أكشف خده وأضعه على التراب تذللا لعل الله يرحمه فتبسم في وجهي وقال لي تذللني بين يدي من يدللني قال قلت لا يا حبيبي أحياة بعد الموت فأجاب اما علمت ان احباءه لا يملكون ولكن ينقلونمن دار إلى دار
وقال إبراهيم بن شيبان أيضا كان عندي في القرية شاب من أهلها متنسكا ملازما للمسجد وكنت مشغوفا به فاعتل فأتيت في بعض الجمعات البد للصلاة وكنت إذا جئت البلد أقيم عند اخواني بقية يومي وليلتي فوقع علي الانزعاج بعد العصر فأتيت القرية بعد العتمة فسألت عن الفتى قالوا نظنه متوجعا فأتيته وسلمت عليه وصافحته فخرجت روحه مع المصافحة فتوليت غسله فغلطت في صب الماء أردت أن أصب على يمينه صببت على يساره ويده في يدي فانتزع يده من يدي حتى ذهب ما كان عليه من السدر فغشي علي من كان معي ثم فتح عينيه في ففزعت وصليت عليه ودخلت القبر أواريه وكشفت عن وجهه ففتح عينيه وتبسم حتى بدت نواجذه وثناياه فسوينا عليه وحثينا عليه التراب
يشهد لصحة ذلك ما حدثنا أبو الحسن علي بن إسماعيل الفارسي حا نصر
ابن أحمد البغدادي ح الوليد بن شجاع السكوني عن خالد عن نافع الاشعري عن حفص بن يزيد بن مسعود بن خراش أن الربيع بن خراش كان حلف أن لا يضحك حتى يعلم أفي الجنة هو أم في النار فمكث لا يراه أحد يضحك حتى مات فيما يرون فأغمضوه وسجوه وبعثوا الى قبره ليحفر وبعثوا إلى كفنه فأتى به
فقال ربعي بن خراش رحم الله أخي كان أقومنا في الليل الطويل وأصومنا في اليوم الحار قال فإنهم لجلوس حوله إذ طرح الثوب عن وجهه فاستقبلهم وهو يضحك
فقال له أخوه ربعي يا أخي أبعد الموت حياة
قال نعم إني لقيت ربي وإنه تلقاني بروح وريحان ورب غير غضبان وإنه قد كساني سندسا وحريرا ألا وإني وجدت الامر أيسر مما ترون فلا تغتروا فإن خليلي محمدا صلى الله عليه و سلم ينتظرني ليصلي علي الوحي الوحي ثم خرجت نفسه في آخر ذلك كأنها حصاة قذفت في ماء فبلغ ذلك عائشة أم المؤمنين فقالت اخو بني عبس رحمه الله سمعت رسول الله يقول يتكلم رجل من أمتي بعد الموت من خير التابعين
الباب الرابع والسبعون
من لطائف ما جرى عليهمقال أبو بكر القحطبي كنت في مجلس سمنون فوقف عليه رجل فسأله عن المحبة فقال لا أعرف اليوم من أتكلم عليه يعلم هذه المسألة فسقط على رأسه طائر فوقع على ركبته فقال إن كان فهذا ثم جعل يقول ويشير الى الطير بلغ من أحوال القوم كذا وكذا فشاهدوا كذا وكذا وكانوا في حال كذا وكذا فلم يزل يتكلم عليه حتى سقط الطير عن ركبته ميتا
قال أبو بكر بن مجاهد سمعت أحمد بن سنان العطار يقول سمعت بعض أصحابنا يقول خرجت يوما إلى نيل واسط فإذا أنا بطير أبيض في وسط الماء وهو يقول سبحان الله على غفلة الناس
قال جعفر سمعت الجنيد يقول لقيت شابا من المريدين في البادية جالسا عند شجرة فقلت يا غلام ما الذي أجلسك هنها
فقال ضال افتقدته فمضيت وتركته فلما انصرف إذا أنا به قد انتقل إلى موضع قريب مني فقلت له فما جلوسك الساعة ههنا
قال وجدت ما كنت أطلبه في هذا الموضع فلزمته
فقال الجنيد فلا أدري أي حاليه أشرف لزومه لافتقاد حاله أو لزومه الموضع الذي نال فيه مراده
قال أبو عبد الله محمد بن سعدان سمعت بعض الكبراء يقول كنت يوما جالسا بحذاء البيت فسمعت أنينا من البيت يا جدر تنح عن طريق أوليائي وأحبائي فمن زارك بك طاف حولك ومن زارني بي طاف عندي
الباب الخامس والسبعون
في السماعالسماع استجام من تعب الوقت وتنفس لارباب الاحوال واستحضار الاسرار لذوي الاشغال
وإنما اختير على غيره مما تستروح إليه الطباع لبعد النفوس عن التشبث به والسكون إليه فإنه من القضاء يبدو وإلى القضاء يعود وأرباب الكشوف والمشاهدات استغنوا عنها بالاسباب الحاملة لهم تنزه أسرارهم في ميادين الكشوف
سمعت فارسا يقول كنت عند قوطة الموصلي وكان لزم سارية في جامع بغداد أربعين سنة قلنا له ههنا قوال طيب ندعوه لك
قال أنا أجل من أن يستقطعني شخص أو ينفذ في قول أنا ردم كله
فالسماع إذا قرع الاسماع أثار كوامن أسرارها فمن بين مضطرب لعجز الصفة عن حمل الوارد ومن بين متمكن بقوة الحال
قال أبو محمد رويم إن القوم سمعوا الذكر الاول حين خاطبهم بقوله ألست بربكم فكمن ذلك في أسرارهم كما كمن كون ذلك في عقولهم فلما سمعوا كوامن أسراهم فانزعجوا كما ظهرت كوامن عقولهم عند إخبار الحق لهم عن ذلك فصدقوا
سمعت أبا القاسم البغدادي يقول السماع على ضربين فطائفة سمعت الكلام فاستخرجت منه عبرة وهذا لا يسمع إلا بالتمييز وحضور القلب وطائفة سمعت النغمة وهي قوت الروح فإذا ظفر الروح بقوته أشرف على مقامه وأعرض عن تدبير الجسم فظهر عند ذلك من المستمع الاضطراب والحركة
قال أبو عبد الله النباجي السماع ما أثار فكرة واكتسب عبرة وما سواه فتنة
قال الجنيد الرحمة تنزل على الفقير في ثلاثة مواضع عند الاكل فإنه لا يأكل إلا عند الحاجة وعند الكلام فإنه لا يتكلم إلا للضرورة وعند السماع فإنه لا يسمع إلا عند الوجد
تم الكتاب بحمد الله
******منقول*********
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فهو المهتدي ، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا ، ثم الصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصبحه ومن سار على دربه إلى يوم الدين,
الحمد لله نحمده ونستعينه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فهو المهتدي ، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا ، ثم الصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصبحه ومن سار على دربه إلى يوم الدين,
شهادة علماء الامة الاسلامية للصوفية والتصوف
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في رسالته "مقاصد الإمام النووي في التوحيد والعبادة وأصول التصوف": (أصول طريق التصوف خمسة:
1. تقوى الله في السر والعلانية
2. اتباع السنة في الأقوال والأفعال
3. الإعراض عن الخلق في الإقبال والإدبار
4. الرضى عن الله في القليل والكثير
5. الرجوع إلى الله في السراء والضراء)
وها هوذا حجة الاسلام الامام أبوحامد الغزالي رحمه الله تعالى يتحدث في كتابه "المنقذ من الضلال" عن الصوفية وعن سلوكهم وطريقتهم الحقة الموصلة إلى الله تعالى فيقول:
(ولقد علمت يقينا أن الصوفية هم السالكون لطريق الله تعالى خاصة وأن سيرتهم أحسن السيرة وطريقتهم أصوب الطرق وأخلاقهم أزكى الأخلاق...ثم يقول ردا على من أنكر على الصوفية وتهجم عليهم: وبالجملة فماذا يقول القائلون في طريقة طهارتها- وهي أول شروطها- تطهير القلب بالكلية عما سوى الله تعالى، ومفتاحها الجاري منها مجرى التحريم من الصلاة استغراق القلب بالكلية بذكر الله، وآخرها الفناء بالكلية في الله).
ويقول أيضاً بعد أن اختبر طريق التصوف ولمس نتائجه وذاق ثمراته: (الدخول مع الصوفية فرض عين، إلا يخلوأحد من عيب إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام).
قال العلامة الكبير والمفسر الشهير الامام فخر الدين الرازي رحمه الله تعالى في كتابه (اعتقادات فرق المسلمين والمشركين": "الباب الثامن في أحوال الصوفية: اعلم أن أكثر من حصر فرق الأمة لم يذكر الصوفية وذلك خطأ، لأن حاصل قول الصوفية أن الطريق إلى معرفة الله تعالى هوالتصفية والتجرد من العلائق البدنية، وهذا طريق حسن.. وقال أيضا: والمتصوفة قوم يشتغلون بالفكر وتجرد النفس عن العلائق الجسمانية، ويجتهدون ألا يخلوسرهم وبالهم عن ذكر الله تعالى في سائر تصرفاتهم وأعمالهم، منطبعون على كمال الأدب مع الله عز وجل، وهؤلاء هم خير فرق الآدميين
إن التصوف كبير قدره، جليل خطره، عظيم وقعه، عميق نفعه، أنواره لامعة، وأثماره يانعة، واديه قريع خصيب، وناديه يندولقاصديه من كل خير بنصيب، يزكي النفس من الدنس، ويطهر الأنفاس من الأرجاس، ويرقي الأرواح إلى مراقي الفلاح، ويوصل الإنسان إلى مرضاة الرحمن. وهو إلى جانب هذا ركن من أركان الدين، وجزء متمم لمقامات اليقين.
خلاصته: تسليم الأمور كلها لله، والالتجاء في كل الشؤون إليه. مع الرضا بالمقدور، من غير إهمال في واجب ولا مقاربة المحظور. كثرة أقوال العلماء في تعريفه، واختلفت أنظارهم في تحديده وتوصيفه، وذلك دليل على شرف اسمه ومسماه، ينبئ عن سموغايته ومرماه.. وإنما عبر كل قائل بحسب مدركه ومشربه. وعلى نحواختلافهم في التصوف اختلفوافي معنى الصوفي واشتقاقه.
ثم: إن التصوف مبني على الكتاب والسنة، لا يخرج عنهما قيد أنملة.
والحاصل: أنهم أهل الله وخاصته، الذين ترتجى الرحمة بذكرهم، ويستنزل الغيث بدعائهم، فرضي الله عنهم وعنا بهم.
ومن أوصاف هذه الطائفة: الرأفة، والرحمة، والعفو، والصفح، وعدم المؤاخذة.
أما تاريخ التصوف فيظهر في فتوى للإمام الحافظ السيد محمد صديق الغماري رحمه الله، فقد سئل عن أول من أسس التصوف؟ وهل هوبوحيٍ سماوي؟ فأجاب: (أما أول من أسس الطريقة فلتعلم أن الطريقة أسسها الوحي السماوي في جملة ما أسس من الدين المحمدي، إذ هي بلا شك مقام الإحسان الذي هوأحد أركان الدين الثلاثة التي جعلها النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما بينها واحدا واحدا ديناً بقوله: هذا جبريل عليه السلام أتاكم يعلمكم دينكم، وهوالإسلام والإيمان والإحسان.فالإسلام طاعة وعبادة، والإيمان نور وعقيدة، والإحسان مقام مراقبة ومشاهدة، وأول من تسمى بالصوفي في أهل السنة أبوهاشم الصوفي المتوفي سنة 150 وكان من النساك، ويجيد الكلام، وينطق الشعر كما وصفه الحفاظ).
قال سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام رحمه الله تعالى: (قعد القوم من الصوفية على قواعد الشريعة التي لا تنهدم دنيا وأخرى، وقعد غيرهم على الرسوم، مما يدلك على ذلك ما يقع على يد القوم من الكرامات وخوارق العادات، فانه فرع عن قربات الحق لهم، ورضاه عنهم، ولوكان العلم من غير عمل يرضي الحق تعالى كل الرضى لأجرى الكرامات على أيدي أصحابهم، ولولم يعملوا بعلمهم، هيهات هيهات" المصدر:"نور التحقيق" للشيخ حامد صقر(.
ينبغي لكل شارع في فن أن يتصوره قبل الشروع فيه ؛ ليكون على بصيرة فيه، ولا يحصل التصور إلا بمعرفة المبادئ العشرة المذكورة..
فحدّ التصوف: هوعلم يُعرف به أحوال النفس محمودها ومذمومها، وكيفية تطهيرها من المذموم منها، وتحليتها بالاتصاف بمحمودها، وكيفية السلوك والسير إلى الله تعالى، والفرار إليه..
وموضوعه: أفعال القلب والحواس من حيث التزكية والتصفية.
وثمرته: تهذيب القلوب، ومعرفة علام الغيوب ذوقاً ووجداناً، والنجاة في الآخرة، والفوز برضا الله تعالى، ونيل السعادة الأبدية، وتنوير القلب وصفاؤه بحيث ينكشف له أمور جليلة، ويشهد أحوالاً عجيبة، ويُعاينُ ما عميت عنه بصيرة غيره.
وفضله: أنه أشرف العلوم ؛ لتعلقه بمعرفة الله تعالى وحبه، وهي أفضل على الإطلاق.
ونسبته إلى غيره من العلوم: أنه أصل لها، وشرط فيها ؛ إذ لا علم ولا عمل إلا بقصد التوجه إلى الله، فنسبته لها كالروح للجسد.
وواضعه: الله تبارك تعالى، أوحاه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم والأنبياء قبله ؛ فإنه روح الشرائع والأديان المنزلة كلها..
واسمه: علم التصوف، مأخوذ من الصفاء، والصوفي: مَن صفا قلبُه من الكدر، وامتلأ من العِبَر، واستوى عنده الذهبُ والمَدَر..
واستمداده: من الكتاب والسنة والآثار الثابتة عن خواص الأمّة.
وحكم الشارع فيه: الوجوب العيني ؛ إذ لا يخلوأحد من عيب أومرض قلبي، إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام..
ومسائله: قضاياه الباحثة عن صفات القلوب، ويتبع ذلك شرح الكلمات التي تُتَداول بين القوم (كالزهد والورع والمحبة والفناء والبقاء).
التصوف مذهب كله جد فلا يخلطونه بشيء من الهزل، وهو تصفية القلب عن مواقف البرية، ومفارقة الأخلاق الطبيعية، وإخماد صفات البشرية، ومجانبة الدعاوي النفسانية، ومنازلة الصفات الروحانية، والتعلق بعلوم الحقيقة واستعمال ما هو أولى على السرمدية، والنصح لجميع الأمة، والوفاء لله تعلى على الحقيقة، واتباع رسول الله صلى الله عليه وسلمفي الشريعة.
في كتابه (مدخل إلى التصوف الإسلامي): ليس التصوف هروبا من واقع الحياة كما يقول خصومه، وإنما هو محاولة الإنسان للتسلح بقيم روحية جديدة، تعينه على مواجهة الحياة المادية، وتحقق له التوازن النفسي حتى يواجه مصاعبها ومشكلاتها.
وفي التصوف الإسلامي من المبادئ الإيجابية ما يحقق تطور المجتمع إلى الأمام فمن ذلك أنه يؤكد على محاسبة الإنسان لنفسه باستمرار ليصحح أخطاءها ويملها بالفضائل، ويجعل فطرته إلى الحياة معتدلة، فلا يتهالك على شهواتها وينغمس في أسبابها إلى الحد الذي ينسى فيه نفسه وربه، فيشقى شقاء لا حد له. والتصوف يجعل من هذه الحياة وسيلة لا غاية، وبذلك يتحرر تماما من شهواته وأهوائه بإرادة حرة.
وقال ابن خلدون رحمه الله تعالى في كلامه عن علم التصوف: (هذا العلم من العلوم الشرعية الحادثة في الملة، وأصله أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم طريقة الحق والهداية، وأصلها العكوف على العبادة والانقطاع الى الله تعالى، والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه، والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة. وكان ذلك عاما في الصحابة والسلف، فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده، وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا، اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية) المصدر: مقدمة ابن خلدون.
نحن في عصرنا هذا أشد الناس حاجة إلى متصوف بنظام التصوف الحقيقي وذلك لأن شبابنا قد استهوته الأهواء وسيطرت على قلبه الشهوات.. وإذا سيطرت الأهواء والشهوات على جيل من الأجيال أصبحت خطب الخطباء لا تجدي، وكتابة الكتاب لا تجدي، ومواعظ الوعاظ لا تجدي، وحكم العلماء لا تجدي، وأصبحت كل وسائل الهداية لا تجدي شيئا.
إذا لا بد لنا من طريق آخر للإصلاح، هذا الطريق أن نتجه إلى الاستيلاء على نفوس الشباب، وهذا الاستيلاء يكون بطريق الشيخ ومريديه، بحيث يكون في كل قرية وفي كل حي من أحياء المدن وفي كل بيئة علمية أو اجتماعية رجال يقفون موقف الشيخ الصوفي من مريديه.
نقل الفقيه الحنفي صاحب الدر المختار: أن أبا علي الدقاق رحمه الله تعالى قال: (أنا أخذت هذه الطريقة من أبي القاسم النصر اباذي، وقال أبوالقاسم: أنا أخذتها من الشبلي، وهومن السري السقطي، وهومن معروف الكرخي، وهومن داود الطائي، وهوأخذ العلم والطريقة من أبي حنيفة رضي الله عنه، وكل منهم أثنى عليه وأقر بفضله." ثم قال صاحب الدر معلقا: " فياعجباً لك يا أخي ! ألم يكن لك أسوة حسنة في هؤلاء السادات الكبار؟ أكانوا متهمين في هذا الإقرار والافتخار، وهم أئمة هذه الطريقة وأرباب الشريعة والطريقة؟ ومن بعدهم في هذا الأمر فلهم تبع، وكل من خالف ما اعتمدوه مردود مبتدع).
ولعلك تستغرب عندما تسمع أن الإمام الكبير، أبا حنيفة النعمان رحمه الله تعالى، يعطي الطريقة لأمثال هؤلاء الأكابر من الأولياء والصالحين من الصوفية.
يقول ابن عابدين رحمه الله تعالى، في حاشيته متحدثا عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى، تعليقا على كلام صاحب الدر الآنف الذكر: (هوفارس هذا الميدان، فان مبنى علم الحقيقة على العلم والعمل وتصفية النفس، وقد وصفه بذلك عامة السلف، فقال أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى في حقه: إنه كان من العلم والورع والزهد وإيثار الآخرة بمحل لا يدركه أحد، ولقد ضرب بالسياط ليلي القضاء، فلم يفعل. وقال عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى: ليس أحد أحق من أن يقتدى به من أبي حنيفة، لأنه كان إماما تقيا نقيا ورعا عالما فقيها، كشف العلم كشفا لم يكشفه أحد ببصر وفهم وفطنة وتقى. وقال الثوري لمن قال له: جئت من عند أبي حنيفة: لقد جئت من عند أعبد أهل الأرض). وقال فيه الشافعي الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة.
يقول الإمام مالك رحمه الله تعالى: (من تفقه ولم يتصوف فقد تفسق، ومن تصوف ولم يتفقه فقد تزندق، ومن جمع بينهما فقد تحقق) المصدر: حاشية العلامة علي العدوي على شرح الامام الزرقاني على متن العزيه في الفقه المالكي. وشرح عين العلم وزين الحلم للامام ملا علي قاري.
قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: (صحبت الصوفية فلم استفد منهم سوى حرفين، وفي رواية سوى ثلاث كلمات: قولهم: الوقت سيف إن لم تقطعه قطعك. وقولهم: نفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل. وقولهم: العدم عصمة). المصدر "تأييد الحقيقة العلية" للامام جلال الدين السيوطي.
وقال الشافعي أيضا: (حبب إلي من دنياكم ثلاث: ترك التكلف، وعشرة الخلق بالتلطف، والاقتداء بطريق أهل التصوف) المصدر: "كشف الخفاء ومزيل الالباس عما اشتهر من الأحاديث عل ألسنة الناس" للامام العجلوني.
كان الإمام رحمه الله تعالى قبل مصاحبته للصوفية يقول لولده عبد الله رحمه الله تعالى: ( يا ولدي عليك بالحديث، وإياك ومجالسة هؤلاء الذين سموا أنفسهم صوفية، فانهم ربما كان أحدهم جاهلا بأحكام دينه. فلما صحب أبا حمزة البغدادي الصوفي، وعرف أحوال القوم، أصبح يقول لولده: يا ولدي عليك بمجالسة هؤلاء القوم، فانهم زادوا علينا بكثرة العلم والمراقبة والخشية والزهد وعلو الهمة). المصدر: "تنوير القلوب" للعلامة الشيخ أمين الكردي.
وقال العلامة محمد السفاريني الحنبلي رحمه الله تعالى عن إبراهيم بن عبد الله القلانسي رحمه الله تعالى أن الامام أحمد رحمه الله تعالى قال عن الصوفية: (لا أعلم قوما أفضل منهم. قيل: إنهم يستمعون ويتواجدون، قال: دعوهم يفرحوا مع الله ساعة...). المصدر:"غذاء الألباب شرح منظومة الآداب"
وقال الشيخ تاج الدين عبد الوهاب السبكي رحمه الله تعالى: في كتابه "معيد النعم ومبيد النقم" تحت عنوان الصوفية: (حياهم الله وبياهم وجمعنا في الجنة نحن وإياهم. وقد تشعبت الأقوال فيهم تشعبا ناشئا عن الجهل بحقيقتهم لكثرة المتلبسين بها، بحيث قال الشيخ أبومحمد الجويني: لا يصح الوقف عليهم لأنه لا حد لهم. والصحيح صحته، وأنهم المعرضون عن الدنيا المشتغلون في أغلب الأوقات بالعبادة... ثم تحدث عن تعاريف التصوف إلى أن قال: والحاصل أنهم أهل الله وخاصته الذين ترتجى الرحمة بذكرهم، ويستنزل الغيث بدعائهم، فرضي الله عنهم وعنا بهم).
قال عن التصوف: (هوعلم تعرف به أحوال تزكية النفوس وتصفية الأخلاق، وتعمير الظاهر والباطن لنيل السعادة الأبدية).
من كتابه "كتاب الوصايا" وهومن أمهات الكتب:
يقول الامام المحاسبي رحمه الله تعالى متحدثا عن جهاده المرير للوصول إلى الحق حتى اهتدى إلى التصوف ورجاله: (...فقيض لي الرؤوف بعباده قوما وجدت فيهم دلائل التقوى وأعلام الورع وإيثار الآخرة على الدنيا، ووجدت إرشادهم ووصاياهم موافقة لأفاعيل ائمة الهدى. . . فأصبحت راغباً في مذهبهم مقتبساً من فوائدهم قابلاً لآدابهم محباً لطاعتهم، لا أعدل بهم شيئاً، ولا أوثر عليهم أحداً، ففتح الله لي علماً اتضح لي برهانه، وأنار لي فضله، ورجوت النجاة لمن أقرَّ به أو انتحله، وأيقنت بالغوث لمن عمل به، ورأيت الاعوجاج فيمن خالفه، ورأيت الرَّيْن متراكماً على قلب من جهله وجحده، ورأيت الحجة العظمى لمن فهمه، ورأيت انتحاله والعمل بحدوده واجباً عليَّ، فاعتقدته في سريرتي، وانطويت عليه بضميري، وجعلته أساس ديني، وبنيت عليه أعمالي، وتقلَّبْت فيه بأحوالي. وسألت الله عز وجل أن يوزِعَني شكرَ ما أنعم به عليَّ، وأن يقويني على القيام بحدود ما عرَّفني به، مع معرفتي بتقصيري في ذلك، وأني لا أدرك شكره أبداً).
قال الإمام الكبير حجة المتكلمين عبد القاهر البغدادي رحمه الله تعالى في كتابه "الفرق بين الفرق": (الفصل الأول من فصول هذا الباب في بيان أصناف أهل السنة والجماعة. اعلموا أسعدكم الله أن أهل السنة والجماعة ثمانية أصناف من الناس:....والصنف السادس منهم: الزهاد الصوفية الذين أبصروا فأقصروا، واختبروا فاعتبروا، ورضوا بالمقدور وقنعوا بالميسور، وعلموا أن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك مسئول عن الخير والشر، ومحاسب على مثاقيل الذر، فأعدوا خير الإعداد ليوم المعاد، وجرى كلامهم في طريقي العبارة والاشارة على سمت أهل الحديث دون من يشتري لهوالحديث، لا يعملون الخير رياء، ولا يتركونه حياء، دينهم التوحيد ونفي التشبيه، ومذهبهم التفويض إلى الله تعالى، والتوكل عليه والتسليم لأمره، والقناعة بما رزقوا والإعراض عن الإعتراض عليه. ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذوالفضل العظيم(
قال الإمام أبوالقاسم القشيري رحمه الله تعالى في مقدمة رسالته المشهورة "الرسالة القشيرية" متحدثا عن الصوفية: (جعل الله هذه الطائفة صفوة أوليائه، وفضلهم على الكافة من عباده بعد رسله وأنبيائه صلوات الله وسلامه عليهم، وجعل قلوبهم معادن أسراره، واختصهم من بين الأمة بطوالع أنواره، فهم الغياث للخلق، والدائرون في عموم أحوالهم مع الحق بالحق. صفاهم من كدورات البشرية، ورقاهم إلى محل المشاهدات بما تجلى لهم من حقائق الأحدية، ووفقهم للقيام بآداب العبودية، وأشهدهم مجاري أحكام الربوبية، فقاموا بأداء ما عليهم من واجبات التكليف، وتحققوا بما منه سبحانه لهم من التقليب والتصريف، ثم رجعوا إلى الله سبحانه وتعالى بصدق الافتقار ونعت الانكسار، ولم يتكلوا على ما حصل منهم من الأعمال أوصفا لهم من الأحوال، علما بأنه جل وعلا يفعل ما يريد، ويختار من يشاء من العبيد، لايحكم عليه خلق، ولا يتوجه عليه لمخلوق حق، ثوابه ابتداء فضل وعذابه حكم بعدل، وأمره قضاء فصل).
ويقول أيضاً في "الرسالة القشيرية": (اعلموا رحمكم الله، أن المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتسمّ أفاضلهم في عصرهم بتسمية علم سوى صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ لا أفضلية فوقها، فقد قيل "الصحابة" ولما أدرك العصر الثاني، سمي من صحب الصحابة "التابعين" ورأوا ذلك أشرف تسمية، ثم قيل لمن بعدهم "أتباع التابعين" ثم اختلفت وتباينت المراتب فقيل لخواص الناس ممن لهم شدة عناية بأمر الدين "الزهاد والعباد" ثم ظهرت البدع وحصل التداعي بين الفرق، فكل فريق ادعوا بأن منهم زهادا، فانفرد خواص أهل السنة المراعون أنفسهم مع الله تعالى، الحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة باسم "التصوف" واشتهر هذا الاسم لهؤلاء الأكابر بعد المائتين للهجرة).
قال الشيخ يوسف القرضاوي في معرض سؤاله عن صوفية الإخوان المسلمين فيأنها دعوة صوفية كما جاء في تعريف جماعة الإخوان للمؤسس الشيخ حسن البنا على موقع إسلام أون لاين على صفحة الفتاوى:
مقتطفات من إجابة الدكتور يوسف القرضاوي:
إن الإخوان المسلمين هي دعوة صوفية لأنهم يعملون على أساس التزكية وطهارة النفس، ونقاء القلب، والمواظَبة على العمل، والإعراض عن الخلق، والحبِّ في الله، والارتباط على الخي. فهذا هوالتصوّف، وهذه هي الصوفية الحقيقية عند حسن البنا.
التصوف الحقّ عند حسن البنا يتمثّل أوّلَ ما يتمثّل في:
طهارة النفس ونقاء القلب، فتزكية النفس هي أوّل سبيلِ الفَلاح {ونَفْسٍ ومَا سَوَّاهَا.فَأَلْهَمَهَا فُجورَها وتَقْوَاهَا. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا. وقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} الشمس 7-10 والقلب هوالمُضغة التي إذا صَلُحت صَلُح الإنسان كلُّه، وإذا فسَدت فسَد الإنسان كلُّه، وسلامتُه أساس النجاة يوم القيامة {يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ ولاَ بَنونَ. إِلاّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَليمٍ} الشعراء 88-89 . فلابد من المجاهَدة لنقاء هذا القلب وصفائه وطهارته من معاصي القلوب وأخطارِها.
والمواظَبة على العمل الصالح واجب على المسلم، فإن أحبَّ الأعمال إلى الله أدوَمُها وإن قلَّ.
والإعراض عن الخلق بالإقبال على الخالق: من صفات الرَّبّانِيّين من أصحاب الرسالات{الذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالات اللهِ ويَخْشَوْنَهُ ولاَ يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاّ اللهَ}الأحزاب39. وهم المَوصوفونفي قوله تعالى {يَا أَيُّها الذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ ويُحِبُّونَهُ أَذِلّةٍ عَلَى المُؤمِنينَ أَعِزّةٍ عَلَى الكَافِرينَ يُجاهِدونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ولاَ يَخافونَ لَوْمَةَ لائِمٍ}المائدة: 54. فهم لإعراضهم عن الخلق، لا يخافون لومةَ لائم منهم، ولا يخشَون أحدًا إلا الله سبحانه؛ لأنهم يُوقنون أن الخلق لا يملِكون لهم ضَرًّا ولا نفعًا، ولا حياة ولا موتًا، وأن الأرزاق التي يطمع الناس فيها، والأعمار التي يخاف الناس عليها، كلتاهما بيد الله وحدَه، لا يملِك أحد أن يَنقُصهم لقمةً من رزقهم، ولا أن يقدِّم من أجَلهم لحظة أويؤخِّر {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرونَ سَاعَةً ولاَ يَسْتَقْدِمونَ} الأعراف: 34.
والحبُّ في الله: دِعامة من الدّعائم التي تقوم عليها الجماعة المؤمنة، فكما تربط بينها المفاهيم المشتركة، والفكرة الواحدة، تربط بين أبنائها العواطف المشتركة. وأعظمُ هذه العواطف وأخلدها وأعمقها هوالحبُّ في الله. فهوحبٌّ لا يقوم على عرَض من الدنيا، أومال أوجاهٍ أومُتعة، أونحوذلك، بل يقوم على الإيمان بالله تعالى، والتقرُّب إليه، والرَّغبة في نصرة الإسلام، وأوثَق عُرَى الإيمان: الحبّ في الله، والبُغض في الله.
لقد استفاد الأستاذ البَنّا من تجربته الصوفيّة، أخذ منها ما صفا، وترك ما كَدِرَ، وهوموقف كل الرجال الرَّبّانيين، كما رأينا عند شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه الإمام ابن القيم، فلم يكونا ضِدّ التصوف بإطلاق، كما يَتصوّر أويُصوّر بعض من يزعُم الانتساب إلى مدرستِهما، بل كانا من أهل المعرفة بالله، والحبّ له، ومن رجال التربية الإيمانيّة والسلوك الرَّبّاني، كما بدا ذلك في مجلدين من مجموع فتاوى ابن تيمية، وفي عدد من كتب ابن القيم، أعظمها: مدارج السالكين شرح منازل السائرين إلى مقامات "إيّاكَ نعبُد وإيّاك نستعين".
ومن أبرز ما يتميّز به الصوفيّة الصادِقون ثلاثة أشياء: الاستقامة، والمحبّة، وطاعة الشيخ، وهذه مقوّمات أساسيّة في التربية الإخوانيّة، والله أعلم.
ويقول فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي أيضاً في معرض سؤاله عن التصوفبين مادحيه وقادحيه:
التصوف لا يذم في حد ذاته، بل هومطلوب لكل مسلم إذا أريد به الاهتمام بالروح اهتماما لا يطغى ولا يضر بالجسد، وعلينا أن نزن أعمال التصوف بميزان الكتاب والسنة، فما وافقهما قبلناه وما خالفهما تركناه.
وقد جاء الإسلام بالتوازن في الحياة، يعطي كل ناحية حقها، ولكن الصوفية ظهروافي وقت غلب على المسلمين فيه الجانب الماديّ والجانب العقليّ.
الجانب الماديّ، نتج عن الترف الذي أغرق بعض الطبقات، بعد اتساع الفتوحات، وكثرة الأموال، وازدهار الحياة الاقتصادية، مما أورث غُلوًّا في الجانب المادي، مصحوبًا بغلوآخر في الجانب العقلي، أصبح الإيمان عبارة عن "فلسفة" و"علم كلام" "وجدل"، لا يشبع للإنسان نهمًا روحيًا، حتى الفقه أصبح إنما يعنى بظاهر الدين لا بباطنه، وبأعمال الجوارح. لا بأعمال القلوب وبمادة العبادات لا بروحها.
ومن هنا ظهر هؤلاء الصوفية ليسدُّوا ذلك الفراغ، الذي لم يستطع أن يشغله المتكلمون ولا أن يملأه الفقهاء، وصار لدى كثير من الناس جوع روحيّ، فلم يشبع هذا الجوع إلا الصوفية الذين عنوا بتطهير الباطن قبل الظاهر، وبعلاج أمراض النفوس، وإعطاء الأولوية لأعمال القلوب، وشغلوا أنفسهم بالتربية الروحية والأخلاقية، وصرفوا إليها جُلَّ تفكيرهم واهتمامهم ونشاطهم. حتى قال بعضهم: التصوف هوالخُلق، فمن زاد عليك في الخُلق فقد زاد عليك في التصوف. وكان أوائل الصوفية ملتزمين بالكتاب والسنة، وقَّافين عند حدود الشرع، مطارِدين للبدع والانحرافات في الفكر والسلوك.
ولقد دخل على أيدي الصوفية المتبعين كثير من الناس في الإسلام، وتاب على أيديهم أعداد لا تحصى من العصاة، وخلّفوا وراءهم ثروة من المعارف والتجارب الروحية لا ينكرها إلا مكابر، أومتعصب عليهم.
والحقيقة أن كل إنسان يؤخذ من كلامه ويترك، والحكم هوالنص المعصوم من كتاب الله ومن سنة رسوله. فنستطيع أن نأخذ من الصوفية الجوانب المشرقة، كجانب الطاعة لله. وجانب محبة الناس بعضهم بعضًا، ومعرفة عيوب النفس، ومداخل الشيطان، وعلاجها، واهتمامهم بما يرقِّق القلوب، ويذكِّر بالآخرة. نستطيع أن نعرف عن هذا الكثير عن طريق بعض الصوفية كالإمام الغزالي.
ذكرت "المسلم" مجلة العشيرة المحمدية تحت عنوان: الإمام الشاطبي صوفي سلفي للسيد أبي التقى أحمد خليل: كتاب الاعتصام من الكتب التي يعتبرها المتسلفة مرجعا أساسيا لبعض آرائهم، ويرون في الشيخ أبي اسحاق الشاطبي إماما لهم، وقد عقد الإمام الشاطبي فيكتابه هذا فصولا كريمة عن التصوف الإسلامي، وأثبت أنه من صميم الدين، وليس هومبتدعا، ووفى المقام هناك بما تخرس له الألسن، وتسلم له العقول والقلوب فاستمع إلى الإمام الشاطبي يقول:
(إن كثيرا من الجهال يعتقدون في الصوفية أنهم متساهلون في الاتباع والتزام ما لم يأت في الشرع التزامه مما يقولون به ويعملون عليه، وحاشاهم من ذلك أن يعتقدوه أويقولوا به. فأول شيء بنوا عليه طريقهم اتباع السنة واجتناب ما خالفها، حتى زعم مذكرهم وحافظ مأخذهم وعمود نحلتهم أبوالقاسم القشيري: إنهم إنما اختصوا باسم التصوف انفرادا به عن أهل البدع. فذكر أن المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتسم أفاضلهم فيعصرهم باسم علم سوى الصحبة، إذ لا فضيلة فوقها، ثم سمي من يليهم التابعين، ثم اختلف الناس وتباينت المراتب، فقيل لخواص الناس ممن لهم شدة عناية في الدين: الزهاد والعباد. قال: ثم ظهرت البدع وادعى كل فريق أن فيهم زهادا وعبادا، فانفرد خواص أهل السنة، المراعون أنفسهم مع الله، والحافظون قلوبهم عن الغفلة باسم التصوف، فتأمل تغنم، والله أعلم) المصدر عدد شهر ذي القعدة 1373 هـ من "المسلم" مجلة العشيرة المحمدية.
يقول فيما يرويه لنا كتاب (أصول الوصول) للشيخ زكي إبراهيم: الصوفي يتقرب إلى الله بفروض الله، ثم يزيدها بسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، من جنس ما فرض الله، وأن يكون عنده صفاء في استقبال أقضية العبادة فيكون صافيا لله، والصفاء هو كونك تصافي الله فيصافيك الله. والتصوف رياضة روحية لأنها تلزم الإنسان بمنهج تعبدي لله ما فرضه. وهذه خطوة نحو الود مع الله. وهكذا يمن الله تعالى هؤلاء المتصوفين ببعض العطاءات التي تثبت لهم أنهم على الطريق الصحيح، تلك العطاءات هي طرق ناموس ما في الكون، ويكون ذلك على حسب قدر صفاء المؤمن، فقد يعطي الله صفحة من صفحات الكون لأي إنسان، فينبئه به أو يبشره به ليجذبه إلى جهته. وعندما يدخل الصوفي في مقامات متعددة وجئنا بمن لم يتريض ولم يدخل في مقامات الود وحدثناه بها، فلا شك أنه يكذبها ولكن تكذيبها دليل حلاوتها. والمتصوف الحقيقي يعطيه الله أشياء لا تصدقها عقول الآخرين، ولذلك فعليه أن يفرح بذلك ولا يغضب من تكذيب الآخرين له.
يقول في كتابه (بين التصوف والحياة)، في عدة صفحات متفرقة من كتابه: يجب أن يعرف المسلمون أنه لا حظ لهم من الدنيا إذا لم يتمكن في أعماق نفوسهم الإيمان الخالص. ومن الظلم والجور العظيمين أن تنفق في تحصيل العلم الظاهر سنوات عديدة ولا تبذل لإصلاح الباطن عدة شهور، إن التصوف أو العلم الباطني بالغ فيه الناس مبالغة عظيمة، وصوروه تصويرا شائها، وشرحوه شرحا طبعه بطابع الضلالة إلا أنه قانون لأعمال القلب والباطن.. ونجد تفاصيل أحكام التصوف منصوصة في الكتاب والسنة مثل ما نجد أحكام الفقه تماما وتتبين أهمية أحكام التصوف وأفضليته من نصوص القرآن والحديث التي تصرح بها أو تلمح إليها.
فإن أبى شخص أن يعترف بالتصوف كعلم بعينه وفن بذاته فلم لا ينفر ويشمئز من المصطلحات الدينية الأخرى، من تفسير ومفسر، وتجويد ومجود، وكلام ومتكلم، وغيرها، أما أولئك الذين رأوا التصوف والطريقة والحقيقة والمعرفة ضدا للبشرية فهؤلاء الذين وقعوا فيضلالة أشد خطأ وأطم.
وتحدث خاتمة المحققين العلامة الكبير والفقيه الشهير الشيخ محمد أمين المشهور بابن عابدين رحمه الله تعالى في كتابه المسمى "مجموعة رسائل ابن عابدين" الرسالة السابعة "شفاء العليل وبل الغليل في حكم الوصية بالختمات والتهاليل" عن البدع الدخيلة على الدين مما يجري في المآتم والختمات من قبل أشخاص تزيوا بزي العلم وانتحلوا اسم الصوفية، ثم استدرك الكلام عن الصوفية الصادقين حتى لا يظن أنه يتكلم عنهم عامة فقال:
(ولا كلام لنا مع الصدق من ساداتنا الصوفية المبرئين عن كل خصلة ردية، فقد سئل إمام الطائفتين سيدنا الجنيد: إن إقواما يتواجدون ويتمايلون؟ فقال: دعوهم مع الله تعالى يفرحون، فانهم قوم قطعت الطريق أكبادهم، ومزق النصب فؤادهم، وضاقوا ذرعا، فلا حرج عليهم إذا تنفسوا مداواة لحالهم، ولوذقت مذاقهم عذرتهم في صياحهم).
(التصوف لب الإسلام، وهوعلم يعرف به كيفية السلوك إلى حضرة ملك الملوك، وتصفية البواطن من الرذائل، وتحليتها بأنواع الفضائل، وأوله علم وأوسطه عمل وآخره موهبة. وأصله " أي التصوف" أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة التابعين، ومن بعدهم طريقة الحق والهداية وأصلها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى، والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهد في ما يقبل عليه الجمهور من لذة مال وجاه والانفراد عن الخلق، والخلوة للعبادة، وكان ذلك عاما في الصحابة والسلف، فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده، وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا، اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية والمتصوفة، فمن هذه النصوص، يتبين لنا أن التصوفليس أمرا مستحدثا جديدا، ولكنه مأخوذ من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وحياة أصحابه الكرام، فالصحابة والتابعون وإن لم يتسموا باسم المتصوفين، كانوا صوفيين فعلا، وإن لم يكونوا كذلك اسما).
قال الشيخ رشيد رضا رحمه الله تعالى (لقد انفرد الصوفية بركن عظيم من أركان الدين، لا يطاولهم فيه مطاول، وهو التهذيب علماً وتخلقاً وتحققاً، ثم لما دونت العلوم في الملة، كتب شيوخ هذه الطائفة في الأخلاق ومحاسبة النفس..) .
مجلة المنار السنة الأولى ص726 من كتاب حقائق عن التصوف
مقتطفات من إجاباته على أسئلة الزوار في موقعه على الإنترنت:
الصوفية تعني العمل على تصفية النفس من أخلاقها الذميمة عن طريق كثرة الذكر، وكثرة الالتجاء إلى الله بالدعاء. أما تخلص الإنسان من ارتكاب المحرمات، فذلك لا يتحقق إلا للرسل والأنبياء أما غيرهم ، فيظلون معرضين للمعاصي ، وكل بني آدام خطاء وخير الخطائين التوابون.
كلمة (التصوف) تعني العمل على تطهير النفس من الصفات المذمومة، وهذا هو لب الإسلام وجوهره، وكلمة (التصوف) ككلمة (التزكية) الواردة في القرآن كلاهما بمعنى واحد. وعلى هذا فكل مسلم صادق في إسلامه مستجيب لأوامر الله الواردة في كتابه، لابدَّ أن يكون متصوفاً أو بتعبير آخر مهتماً بتزكية نفسه.
الصوفية المنضبطة بالكتاب والسنة لبّ الإسلام وجوهره.
علماء التصوف كعلماء الشريعة، وكعلماء الأدب واللغة العربية... إلخ، فكما أن فيهؤلاء العلماء من يخطئ في الفتوى وفي التعليم، بل قد تجد فيهم من يدجّل، فكذلك في علماءالتصوف من أخطؤوا في فهمه أو فهم جوانب منه، بل ربما تجد فيهم دجاجلة كاذبين. إذنالتصوف من حيث هو ليس خطأ والمتصوفة ليسوا مخطئين ولكن كثيراً ما يتسرب إليهم جاهلون أو دجالون.
الطُّرق الصُّوفية يحكم لها أو عليها حسب موافقتها أو مخالفتها لأحكام الشريعة الإسلامية التي دلَّ عليها كتاب الله وسنّة رسوله. إن هذه الطُّرق، على تنوُّعها واختلافها، لا تخرج عن كونها مناهج متعددة ومختلفة إلى تربية النفس وتطهيرها من الرُّعونات والآفات.. ولا شكَّ أن هذا الهدف مشروع ومطلوب، كيف لا ومدار الشريعة الإسلامية كلها على تزكية النفس والسُّموّ بها إلى مكارم الأخلاق. ولكن لا يكفي أن يكون الهدف وحده نبيلاً ومشروعاً، بل لا بدَّ أن تكون السُّبل إليه مشروعة أيضاً. ولا شكَّ أن كثيراً من المرشدين والقائمين على رعاية الطُّرق الصوفية، يتجاوزون حدود الشريعة الإسلامية في كثير من مناهجهم وأساليبهم التَّربوية التي يأخذون بها مريديهم، إن بقصد أو دون قصد.. هذه الطرق تصبح باطلة غير مشروعة في هذه الحال، مهما قيل عن أهدافها المشروعة والنبيلة، بل كُن على يقين أن الهدف المشروع في ميزان الإسلام لا يتحقق إلاّ من خلال التَّمسُّك بميزان الإسلام ذاته.
ما نقل عن الجنيد البغدادي والشبلي مما ذكرت (في سؤالك) كذب عليهما. وقد كان كل منهما مضرب المثل في التمسك بالكتاب والسنة والتحذير من أفكار وحدة الوجود.
كما قال في كتابه (هذا والدي): كان أبي رحمه الله يجزم بأن التصوف النقي هو جوهر الإسلام ولبابه وكان يؤكد أن المسلم إذا لم يكن قد تشرب حقيقة التصوف فقد حبس نفسه فيمعاني الإسلام ولم يرق صعدا إلى حقيقة الإيمان.
وقال أيضاً : التصوف الحقيقي لا يمكن إلا أن يكون مأخوذا من كتاب الله وسنة رسوله، ذلك لأن السعي إلى الوصول إلى ثمرات الإيمان بالله في القلب واجب، رسمه القرآن وأكدته السنة، ولم يكن رحمه الله يقيم وزنا لتصوف لم ينهض على أساس من العلم السليم بكتاب الله وسنة رسوله، وكان يرى أن صدق الانفعال بثمرات الإيمان التي هي حقيقة التصوفولبه لا يأتي إلا من سعة العلم بالله عز وجل وبرسوله صلى الله عليهم وسلم وبالشرائع والأحكام التي خاطب الله بها عباده.
وقال حفظه الله أيضا في كتاب (السلفية): التصوف بمعناه الحقيقي السليم هو لب الإسلام، وجوهره الكامن في أعماق فؤاد الإنسان المسلم وبدونه يغدو الإسلام مجرد رسوم ومظاهر وشعارات، يجامل بها الناس بعضهم بعضا وهذا اللباب يتمثل في الرغبة والرهبة إذ تهيمن على قلب المسلم حبا له ومخافة منه فيتطهر فؤاده من أدران الضغائن والأحقا وحب الدنيا. ولا توقفنك إزاء هذه الحقيقة مشكلة الاسم، فلقد كان التحلي بهذا اللباب في صدر الإسلام مسمى لا اسم له إلا الإسلام، ثم سمي فيما بعد بـالتصوف. (بتصرف)
يقول في كتابه (الفلسفة القرآنية): التصوف في الحقيقة غير دخيل في العقيدة الإسلامية كما قلنا في كتابنا عن أثر العرب في الحضارة الأوروبية، ومثبوت في آيات القرآن الكريم، مستكن بأصوله، في عقائد صريحة.
يقول في كتابه (قضية التصوف): التصوف لا يعدو أن يكون جهادا عنيفا ضد الرغبات ليصل الإنسان إلى السمو أو إلى الكمال الروحي، ليكون عارفا بالله، وإن الذين يربطون بينالتصوف من جانب أو الكرامات وخوارق العادات من جانب آخر كثيرون، ولكن التصوف ليس كرامات ولا خوارق للعادات.
قال العلامة الكبير الاستاذ أبو الأعلى المودودي في كتابه مبادئ الإسلام تحت عنوانالتصوف: إن علاقة الفقه إنما هي بظاهر الإنسان فقط، ولا ينظر إلا هل قمت بما أمرت به على الوجه المطلوب أم لا؟ فإن قمت فلا تهمه حال قلبك وكيفيته، أما الشيء الذي يتعلق بالقلب ويبحث عن كيفيته فهو التصوف.
إن الفقه لا ينظر في صلاتك مثلا إلا هل أتممت وضوءك على الوجه الصحيح أم لا؟ وهل صليت موليا وجهك شطر المسجد الحرام أم لا؟ وهل أديت أركان الصلاة كلها أم لا؟ وهل قرأت في صلاتك بكل ما يجب أن تقرأ فيها أم لا؟ فإن قمت بكل ذلك فقد صحت صلاتك بحكم الفقه، إلا أن الذي يهم التصوف هو ما يكون عليه قلبك حين أدائك هذه الصلاة من الحالة، هل أنبت فيها إلى ربك أم لا؟ وهل تجرد قلبك فيها عن هموم الدنيا وشؤونها أم لا؟ وهل أنشأت فيك هذه الصلاة خشية الله واليقين بكونه خبيرا بصيرا، وعاطفة ابتغاء وجهه الأعلى وحده أم لا؟ وإلى أي حد نزهت هذه الصلاة روحه؟ وإلى أي حد جعلته مؤمنا صادقا عاملا بمقتضيات إيمانه؟ فعلى قدر ما تحصل له هذه الأمور وهي من غايات الصلاة وأغراضها الحقيقية فيصلاته تكون صلاته كاملة في نظر التصوف، وعلى قدر ما ينقصها الكمال من هذه الوجهة تكون ناقصة في نظر التصوف. فهكذا لا يهم الفقه في سائر الأحكام الشرعية إلا هل أدى المرء الأعمال على الوجه الذي أمره به لأدائها أم لا. أما التصوف فيبحث عما كان في قلبه من الإخلاص وصفاء النية وصدق الطاعة عند قيامه بهذه الأعمال، ويمكنك أن تدرك هذا الفرق بين الفقه والتصوف بمثل أضربه لك:
إنك إذا أتاك رجل نظرت فيه من وجهتين، إحداهما: هل هو صحيح البدن كامل الأعضاء؟ أم في بدنه شيء من العرج أو العمى؟ وهل هو جميل الوجه أو ذميمه؟ وهل هو لابس زسا فاخرا أو ثيابا بالية.
والوجهة الأخرى: إنك تريد أن تعرف أخلاقه، وعاداته، وخصاله، ومبلغه من العلم والعقل ولاصلاح. فالوجهة الأولى وجهة الفقه، والوجهة الثانية وجهة التصوف، وكذلك إذا أردت أن تتخذ أحدا صديقا لك، فإنك تتأمل في شخصيته من كلا الوجهتين، وتحب أن يكون جميل المنظر وجميل الباطن معا، كذلك لا تجعل في عين الإسلام إلا الحياة التي فيها اتباع كامل صحيح لأحكام الشريعة من الوجهتين الظاهرة والباطنة.
ثم قال: إنما التصوف عبارة في حقيقة الأمر عن حب الله ورسوله الصادق، بل الولوع بهما والتفاني في سبيلهما، والذي يقتضيه هذا الولوع والتفاني ألا ينحرف المسلم قيد شعرة عن اتباع أحكام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فليس التصوف الإسلامي الخالص بشيء مستقل عن الشريعة، وإنما هو القيام بغاية من الإخلاص وصفاء النية وطهارة القلب.
قال العلامة المشهور جلال الدين السيوطي رحمه اله تعالى في كتابه (تأييد الحقيقة العلية): إن التصوف في نفسه علم شريف، وإن مداره على اتباع السنة وترك البدع، والتبري من النفس وعوائدها وحظوظها وأغراضها ومراداتها واختياراتها والتسليم لله والرضى به وبقضائه، وطلب محبته واحتقار ما سواه.. وعلمت أيضا أنه قد كثر فيه الدخيل من قوم تشبهوا بأهله وليسوا منهم، فأدخلوا فيه ما ليس منه، فأدى ذلك إلى إساءة الظن بالجميع، فوجه أهل العلم للتمييز بين الصنفين ليعلم أهل الحق من أهل الباطل، وقد تأملت الأمور التي أنكرها أئمة الشرع على الصوفية فلم أر صوفيا محققا يقول بشيء منها، وإنما يقول بها أهل البدع والغلاة الذين ادعوا أنهم صوفية وليسوا منهم.
التصوف عندنا تزكية للقلب، لحفظ لطيفته، كحفظ الطب للأبدان، حتى يبقى القلب دائما محلاً طاهراً لنظر الله عز وجل.
وجملة القول أن أهل هذا الطريق أشهر وأسمى من أن يُحتاج في التعرف عليهم إلى لفظ مشتق أو قياس على هذا اللفظ، فالسالك لا يهمه الاسم الذي يطلق عليه مهما كان، طالما أنه مع الله والى الله في عمله وقصده، وإنما همه ومبتغاه هو أن يكون مع خالقه بلا غرض ولا مطلب ولا تحقيق شهوة دنيوية؛ اللهم إلا علاقة الشكر الدائم الذي لا ينقطع، والشعور بالقصور، والشعور بالقرب بعد كدورة البعد {اعْمَلُوا ءَالَ دَاوُدَ شُكْرًا} (13 سبأ).
وسواء سمي السالك صوفياً، أو أي اسم آخر، فهذا ليس بالأمر المهم، فنحن لا نهتم بالألفاظ والمسميات بقدر ما نهتم بالحقائق والمبادئ، فإذا ذكر أمامنا لفظ الصوفي أو التصوف، تبادرت إلى أذهاننا معاني تزكية النفوس، وصفاء القلوب، والسعي حثيثاً لإصلاحها، وصولاً إلى مرتبة الإحسان التي هي مقام كل العارفين الربانيين، الذين تحققوا من معنى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسير الإحسان (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك). فهذه الحقائق سميت في القرن الثاني للهجرة تصوفاً، ولنا أن نسميه الآن: «الجانب الروحي في الإسلام» أو «أخلاق الإسلام» أو «التحقق من معاني الإحسان» أو أي اسم يتفق مع معاني شريعتنا الغراء وما جاء به الكتاب والسنة، وهما مصدر التصوف وحقيقته.
أما إنكار بعض الناس على هذا اللفظ (التصوف) بأنه لم يُسمع في عهد الصحابة والتابعين فهو مردود جملةً وتفصيلاً، لأن معظم الاصطلاحات أُحدثت بعد زمن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة، واستعملها جيل الصحابة والتابعين، ولم تُنكر من كبار الصحابة وأئمة التابعين، كألفاظ التابعين، وتابعي التابعين، وأمير المؤمنين، وألفاظ النحو والفقه والمنطق وعلوم الإدارة و الدواوين وعلوم القرآن والتفاسير وعلوم الحديث والجرح والتعديل، كل هذه الاصطلاحات لم تكن تستعمل زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستعملت فيما بعد ولم تنكر
منقول .....................مدونة الصوفية